للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِلَيْهِمْ، وَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ لِكُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانِهِمْ لَكَانَ ذَلِكَ مَظَنَّةً لِلِاخْتِلَافِ وَفَتْحًا لِبَابِ التَّنَازُعِ لِأَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ قَدْ تَدَّعِي مِنَ الْمَعَانِي فِي لِسَانِهَا مَا لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهَا، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مُفْضِيًا إِلَى التَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ بِسَبَبِ الدَّعَاوِي الْبَاطِلَةِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْمُتَعَصِّبُونَ وَجُمْلَةُ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ: يَضِلُّ مَنْ يَشَاءُ إِضْلَالَهُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا ذُكِرَ فِعْلٌ وَبَعْدَهُ فِعْلٌ آخَرُ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّسَقُ مُشَاكِلًا لِلْأَوَّلِ فَالرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ هُوَ الْوَجْهُ، فَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا أرسلنا من رسول الله إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ تِلْكَ الشَّرَائِعَ بِاللُّغَةِ الَّتِي أَلِفُوهَا وَفَهِمُوهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُضِلَّ وَالْهَادِيَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْبَيَانُ لَا يُوجِبُ حُصُولَ الْهِدَايَةِ إِلَّا إِذَا جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَاسِطَةً وَسَبَبًا، وَتَقْدِيمُ الْإِضْلَالِ عَلَى الْهِدَايَةِ لِأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهَا، إِذْ هُوَ إِبْقَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ وَالْهِدَايَةُ إِنْشَاءُ مَا لَمْ يَكُنْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ الْحَكِيمُ الَّذِي يُجْرِي أَفْعَالَهُ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ بِعْثَةِ نَبِيِّنَا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ هُوَ إِخْرَاجُ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ إِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا ذَلِكَ، وَخَصَّ مُوسَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّ أُمَّتَهُ أَكْثَرُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَقَالَ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَيْ:

مُتَلَبِّسًا بِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي لِمُوسَى، وَمَعْنَى أَنْ أَخْرِجْ أَيْ: أَخْرِجْ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ بِأَنْ أَخْرِجْ، وَالْمُرَادُ بِقَوْمِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُلْكِ فِرْعَوْنَ مِنَ الظُّلُماتِ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ مِنَ الْجَهْلِ الَّذِي قَالُوا بِسَبَبِهِ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «١» . إِلَى النُّورِ إِلَى الْإِيمَانِ أَوْ إِلَى الْعِلْمِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أَيْ: بِوَقَائِعِهِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْعَرَبُ تَقُولُ الْأَيَّامَ فِي مَعْنَى الْوَقَائِعِ، يُقَالُ: فُلَانٌ عَالِمٌ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ، أَيْ: بِوَقَائِعِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ ذَكِّرْهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَبِنِقَمِ أَيَّامِ اللَّهِ الَّتِي انْتَقَمَ فِيهَا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ. وَالْمَعْنَى: عِظْهُمْ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِنَّ فِي ذلِكَ أَيْ: فِي التَّذْكِيرِ بِأَيَّامِ اللَّهِ أَوْ فِي نَفْسِ أَيَّامِ اللَّهِ لَآياتٍ لَدِلَالَاتٍ عَظِيمَةٍ دَالَّةٍ عَلَى التَّوْحِيدِ وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ لِكُلِّ صَبَّارٍ أَيْ: كَثِيرِ الصَّبْرِ عَلَى الْمِحَنِ وَالْمِنَحِ شَكُورٍ كَثِيرِ الشُّكْرِ لِلنِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْوَصْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِلَاكُ الْإِيمَانِ، وَقُدِّمَ الصَّبَّارُ عَلَى الشَّكُورِ لِكَوْنِ الشُّكْرِ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ قَالَ: مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: يَسْتَحِبُّونَ قَالَ: يَخْتَارُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وعلى الأنبياء، وقيل: مَا فَضَّلَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ «٢» وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «٣» فَكَتَبَ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ قِيلَ فَمَا هو فَضَّلَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ وقال لمحمد:


(١) . الأعراف: ١٣٨.
(٢) . الأنبياء: ٢٩.
(٣) . الفتح: ٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>