للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِئْنَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى سُؤَالٍ، وَالتَّجَرُّعُ: التَّحَسِّي، أَيْ: يَتَحَسَّاهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لَا مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَرَارَتِهِ وَحَرَارَتِهِ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أَيْ: يَبْتَلِعُهُ، يُقَالُ: سَاغَ الشَّرَابُ فِي الْحَلْقِ يَسُوغُ سَوْغًا إِذَا كَانَ سَهْلًا، وَالْمَعْنَى: وَلَا يُقَارِبُ إِسَاغَتَهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْإِسَاغَةُ؟ بَلْ يُغَصُّ به فيطول عذابه بالعطش تارة، وبشربه عَلَى هَذِهِ الْحَالِ أُخْرَى وَقِيلَ: إِنَّهُ يُسِيغُهُ بَعْدَ شِدَّةٍ وَإِبْطَاءٍ، كَقَوْلِهِ:

وَما كادُوا يَفْعَلُونَ «١» أَيْ: يَفْعَلُونَ بَعْدَ إِبْطَاءٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ «٢» . وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أَيْ: تَأْتِيهِ أَسْبَابُ الْمَوْتِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ، أَوْ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ مَوَاضِعِ بَدَنِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمُرَادُ بِالْمَوْتِ هُنَا الْبَلَايَا الَّتِي تُصِيبُ الْكَافِرَ فِي النَّارِ، سَمَّاهَا مَوْتًا لِشِدَّتِهَا وَما هُوَ بِمَيِّتٍ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ حَقِيقَةً فَيَسْتَرِيحُ وَقِيلَ: تَعْلَقُ نَفْسُهُ فِي حَنْجَرَتِهِ فَلَا تَخْرُجُ مِنْ فِيهِ فَيَمُوتُ، وَلَا تَرْجِعُ إِلَى مَكَانِهَا مِنْ جَوْفِهِ فَيَحْيَا، وَمِثْلُهُ قوله تعالى: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَقِيلَ: مَعْنَى وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ لِتَطَاوُلِ شَدَائِدِ الْمَوْتِ بِهِ وَامْتِدَادِ سَكَرَاتِهِ عَلَيْهِ. وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِعَدَمِ الْمَوْتِ حَقِيقَةً لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قوله سبحانه: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى «٣» وَقَوْلِهِ: لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها «٤» . وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ أَيْ: مِنْ أَمَامِهِ، أَوْ مِنْ بَعْدِهِ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْخُلُودُ، وَقِيلَ: حَبْسُ النَّفْسِ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَثَلُ مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:

التَّقْدِيرُ مَثَلُ أَعْمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَحُذِفَ الْمُضَافُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بِإِلْغَاءِ مَثَلُ، وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَعْنِي مَثَلُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الصِّفَةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ صفتهم العجيبة أعمالهم كرماد. والمراد: أَنَّ أَعْمَالَهُمْ بَاطِلَةٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَالرَّمَادُ مَا يَبْقَى بَعْدَ احْتِرَاقِ الشَّيْءِ ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ مَثَلًا لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ فِي أَنَّهُ يَمْحَقُهَا كَمَا تَمْحَقُ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الرَّمَادَ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ.

وَمَعْنَى: اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ: حَمَلَتْهُ بِشِدَّةٍ وَسُرْعَةٍ، وَالْعَصْفُ شِدَّةُ الرِّيحِ، وُصِفَ بِهِ زَمَانُهَا مُبَالَغَةً كَمَا يُقَالُ:

يَوْمٌ حَارٌّ وَيَوْمٌ بَارِدٌ، وَالْبَرْدُ وَالْحَرُّ فِيهِمَا لَا مِنْهُمَا لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ أَيْ: لَا يَقْدِرُ الْكُفَّارُ مِمَّا كَسَبُوا مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا يَرَوْنَ لَهُ أَثَرًا فِي الْآخِرَةِ يُجَازَوْنَ بِهِ وَيُثَابُونَ عَلَيْهِ، بَلْ جَمِيعُ مَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا بَاطِلٌ ذَاهِبٌ كَذَهَابِ الرِّيحِ بِالرَّمَادِ عِنْدَ شِدَّةِ هُبُوبِهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّمْثِيلُ، أَيْ: هَذَا الْبُطْلَانُ لِأَعْمَالِهِمْ وَذَهَابُ أَثَرِهَا هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ الْمُخَالِفِ لِمَنْهَجِ الصَّوَابِ، لَمَّا كَانَ هَذَا خُسْرَانًا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ سَمَّاهُ بَعِيدًا.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا الْآيَةَ، قَالَ: كَانَتِ الرُّسُلُ وَالْمُؤْمِنُونَ يَسْتَضْعِفُهُمْ قَوْمُهُمْ وَيَقْهَرُونَهُمْ وَيُكَذِّبُونَهُمْ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى أَنْ يَعُودُوا فِي مِلَّتِهِمْ، فَأَبَى اللَّهُ لِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعُودُوا فِي مِلَّةِ الْكُفْرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَفْتِحُوا عَلَى الْجَبَابِرَةِ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يُسْكِنَهُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَأَنْجَزَ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، وَاسْتَفْتَحُوا كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ


(١) . البقرة: ٧١.
(٢) . الحج: ٢٠.
(٣) . الأعلى: ١٣.
(٤) . فاطر: ٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>