على قوله: ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ أي: واتبعوا ما أنزل عَلَى الْمَلَكَيْنِ. وَقِيلَ إِنَّ «مَا» فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ نَافِيَةٌ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا، يُعْلَمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَهَارُوتُ وَمَارُوتُ بَدَلٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ذَكَرَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ وَجْهُ تَقْدِيمِ ذَلِكَ؟ قِيلَ: وَجْهُ تَقْدِيمِهِ أَنْ يُقَالَ: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَلَكِنَّ الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وَمَارُوتَ، فَيَكُونُ مَعْنِيًّا بِالْمَلَكَيْنِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، لِأَنَّ سَحَرَةَ الْيَهُودِ فِيمَا ذُكِرَ كَانَتْ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ السِّحْرَ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَأَخْبَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَمْ يَنْزِلَا بِسِحْرٍ، وَبَرَّأَ سُلَيْمَانَ مِمَّا نَحَلُوهُ مِنَ السِّحْرِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ السِّحْرَ مِنْ عَمَلِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّهَا تُعَلِّمُ النَّاسَ ذَلِكَ بِبَابِلَ، وَأَنَّ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَهُمْ ذَلِكَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا هَارُوتُ وَالْآخَرُ مَارُوتُ، فَيَكُونُ هَارُوتُ وَمَارُوتُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَرْجَمَةً عَنِ النَّاسِ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ حَكَى مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ، وَرَجَّحَ أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ بَدَلٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، مَا لَفْظُهُ: هَذَا أَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهَا، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى سِوَاهُ، فَالسِّحْرُ مِنِ اسْتِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ لِلَطَافَةِ جَوْهَرِهِمْ، وَدِقَّةِ أَفْهَامِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْإِنْسِ النِّسَاءُ، وَخَاصَّةً فِي حَالِ طَمْثِهِنَّ، قَالَ اللَّهُ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ «١» ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ اثْنَانِ بَدَلًا مِنْ جَمْعٍ وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى حَدِّ الْمُبْدَلِ؟ ثُمَّ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الِاثْنَيْنِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا الْجَمْعُ، أَوْ أَنَّهُمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِمَا لِتَمَرُّدِهِمَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ «الْمَلِكَيْنِ» بِكَسْرِ اللَّامِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْجَزْمِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ مَعَ بُعْدِهِ وَظُهُورِ تَكَلُّفِهِ تَنْزِيهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُنْزِلَ السِّحْرَ إِلَى أَرْضِهِ فِتْنَةً لِعِبَادِهِ عَلَى أَلْسُنِ مَلَائِكَتِهِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِهَذَا التَّعَسُّفِ الْمُخَالِفِ لِمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ كَمَا امْتَحَنَ بِنَهَرٍ طَالُوتَ، وَلِهَذَا يَقُولُ الْمَلَكَانِ:
إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهُمَا أُنْزِلَا إِلَى الْأَرْضِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا كَانَ- وَبَابِلُ قِيلَ: هِيَ الْعِرَاقُ وَقِيلَ: نَهَاوَنْدُ وَقِيلَ: نَصِيبِينُ وَقِيلَ:
الْمَغْرِبُ. وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ لَا يَنْصَرِفَانِ. وَقَوْلُهُ: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا قَالَ الزَّجَّاجُ: تَعْلِيمُ إِنْذَارٍ مِنَ السِّحْرِ لَا تَعْلِيمُ دُعَاءٍ إِلَيْهِ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّظَرِ، وَمَعْنَاهُ:
أَنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ عَلَى النَّهْيِ، فَيَقُولَانِ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا كَذَا، وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَحَدٍ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: يُعَلِّمانِ مِنَ الْإِعْلَامِ لَا مِنَ التَّعْلِيمِ، وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: تَعْلَمُ بِمَعْنَى أَعْلَمُ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ:
تَعْلَمُ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي ... وَأَنَّ وَعِيدًا مِنْكَ كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ
وَقَالَ الْقَطَامِيُّ:
تَعْلَمُ أَنَّ بَعْدَ الْغَيِّ رُشْدًا ... وَأَنَّ لِذَلِكَ الْغَيِّ انْقِشَاعًا
(١) . الفلق: ٤.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute