مَكَّةَ مُخَاطِبِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُتَهَكِّمِينَ بِهِ حَيْثُ أَثْبَتُوا لَهُ إِنْزَالَ الذِّكْرِ عَلَيْهِ، مَعَ إِنْكَارِهِمْ لِذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ أَشَدَّ إِنْكَارٍ وَنَفْيِهِمْ لَهُ أَبْلَغَ نَفْيٍ، أَوْ أرادوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي زَعْمِهِ، وَعَلَى وَفْقِ مَا يَدَّعِيهِ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ أَيْ: إِنَّكَ بِسَبَبِ هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي تَدَّعِيهَا مِنْ كَوْنِكَ رَسُولًا لِلَّهِ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِ أَحْكَامِهِ لَمَجْنُونٌ، فَإِنَّهُ لَا يَدَّعِي مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى الْعَظِيمَةِ عِنْدَهُمْ مَنْ كَانَ عَاقِلًا، فَقَوْلُهُمْ هَذَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ هُوَ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ «١» . لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ لَوْ مَا: حَرْفُ تَحْضِيضٍ، مُرَكَّبٍ مِنْ لَوِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّمَنِّي وَمِنْ مَا الْمَزِيدَةِ، فَأَفَادَ الْمَجْمُوعُ الْحَثَّ عَلَى الْفِعْلِ الدَّاخِلَةُ هِيَ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى:
هَلَّا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ لِيَشْهَدُوا عَلَى صِدْقِكَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قال الفراء: الميم في «لو ما» بَدَلٌ مِنَ اللَّامِ فِي لَوْلَا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لولا ولو ما سواء في الخبر والاستفهام. قال النحاس: لو ما ولولا وهلا واحد وقيل: المعنى: لو ما تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ فَيُعَاقِبُونَا عَلَى تَكْذِيبِنَا لَكَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ قُرِئَ «مَا نُنَزِّلُ» بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا مِنَ التَّنْزِيلِ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُجِيبًا عَلَى الْكُفَّارِ لَمَّا طَلَبُوا إِتْيَانَ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ مَا نُنَزِّلُ نَحْنُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ أَيْ: تَنْزِيلًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ الَّذِي يَحِقُّ عِنْدَهُ تَنْزِيلُنَا لَهُمْ فِيمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْمَشِيئَةُ الرَّبَّانِيَّةُ، وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي اقْتَرَحْتُمُوهُ مِمَّا يَحِقُّ عِنْدَهُ تَنْزِيلُ الْمَلَائِكَةِ، وَقُرِئَ «نُنْزِلُ» مُخَفَّفًا مِنَ الْإِنْزَالِ، أَيْ: مَا نُنْزِلُ نَحْنُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَقُرِئَ «مَا تَنَزَّلُ» بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ مُضَارِعًا مُثْقَلًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنَ التَّنْزِيلِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، أَيْ: تَتَنَزَّلُ، وَقُرِئَ أَيْضًا بِالْفَوْقِيَّةِ مُضَارِعًا مَبْنِيًا لِلْمَفْعُولِ وَقِيلَ: مَعْنَى إِلَّا بِالْحَقِّ إِلَّا بِالْقُرْآنِ، وَقِيلَ: بِالرِّسَالَةِ، وَقِيلَ:
بِالْعَذَابِ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ أَنْزَلْنَا الْمَلَائِكَةَ لَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ، فَالْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ جَزَاءٌ لِلْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْمَحْذُوفَةِ، ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَى الْكُفَّارِ اسْتِهْزَاءَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بقولهم: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ أَيْ: نَحْنُ نَزَّلْنَا ذَلِكَ الذِّكْرَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَنَسَبُوكَ بِسَبَبِهِ إِلَى الْجُنُونِ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ تَصْحِيفٍ وَتَحْرِيفٍ وَزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بِهِ، الْمُسْتَهْزِئِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالْمَقَامِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عَادَةَ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ كَذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ أَيْ: رُسُلًا، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ الْإِرْسَالِ عَلَيْهِ، أَيْ: رُسُلًا كَائِنَةً مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ فِي أُمَمِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَسَائِرِ فِرَقِهِمْ وَطَوَائِفِهِمْ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: الشِّيَعُ الْأُمَّةُ التَّابِعَةُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ شَاعَهُ إِذَا تَبِعَهُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْأَوَّلِينَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ عِنْدَ بَعْضِ النُّحَاةِ، أَوْ مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ عِنْدَ آخَرِينَ مِنْهُمْ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ: مَا يَأْتِي رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ شِيعَتَهُ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَمَا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ الكفار مع محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَجُمْلَةُ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ فِي مَحَلِّ
(١) . الشعراء: ٢٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute