نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَ «مِنَ» فِي مِنَ المثاني للتبعيض أو البيان على اختلاف الأقوال، ذكر معنى ذلك الزجاج فقال: هي لِلتَّبْعِيضِ إِذَا أَرَدْتَ بِالسَّبْعِ الْفَاتِحَةَ أَوِ الطِّوَالَ، وللبيان إذا أردت الأسباع. ثم لمّا بيّن لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ الدِّينِيَّةِ نَفَّرَهُ عَنِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ الزَّائِلَةِ فَقَالَ: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أَيْ: لَا تَطْمَحْ بِبَصَرِكَ إِلَى زَخَارِفِ الدُّنْيَا طُمُوحَ رَغْبَةٍ فِيهَا وَتَمَنٍّ لَهَا، وَالْأَزْوَاجُ الْأَصْنَافُ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْأَزْوَاجُ: الْقُرَنَاءُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّمَا يَكُونُ مَادًّا عَيْنَيْهِ إِلَى الشَّيْءِ إِذَا أَدَامَ النَّظَرَ نَحْوَهُ، وَإِدَامَةُ النَّظَرِ إِلَيْهِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ وَتَمَنِّيهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى الْآيَةِ لَا تَحْسُدَنَّ أَحَدًا عَلَى مَا أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا، وَرُدَّ بِأَنَّ الْحَسَدَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَا تَمُدَّنَّ بِغَيْرِ وَاوٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ طَلَبٌ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ طه، ثُمَّ لَمَّا نَهَاهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَمْتِعَتِهِمْ نَهَاهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنُوا وَصَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَحْزَنْ عَلَى مَا مُتِّعُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا فَلَكَ الْآخِرَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، ثُمَّ لَمَّا نَهَاهُ عَنْ أَنْ يَمُدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَلَا يَحْزَنَ عَلَيْهِمْ.
وَكَانَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّهَاوُنَ بِهِمْ وَبِمَا مَعَهُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وخفض الجناح كناية عن التواضح وَلِينِ الْجَانِبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ، وَقَوْلُ الْكُمَيْتِ:
خَفَضْتُ لَهُمْ مِنِّي جَنَاحَيْ مَوَدَّةٍ ... إِلَى كَنَفٍ عِطْفَاهُ أَهْلٌ وَمَرْحَبُ
وَأَصْلُهُ أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا ضَمَّ فَرْخَهُ إِلَى نَفْسِهِ بَسَطَ جَنَاحَهُ، ثُمَّ قَبَضَهُ عَلَى الْفَرْخِ، فَجُعِلَ ذَلِكَ وَصْفًا لِتَوَاضُعِ الْإِنْسَانِ لِأَتْبَاعِهِ وَيُقَالُ: فُلَانٌ خَافِضُ الْجَنَاحِ، أَيْ: وَقُورٌ سَاكِنٌ، وَالْجَنَاحَانِ مِنِ ابْنِ آدَمَ جَانِبَاهُ، وَمِنْهُ:
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ ومنه قول الشاعر:
وحسبك فتية لِزَعِيمِ قَوْمٍ ... يَمُدُّ عَلَى أَخِي سَقَمٍ جَنَاحًا
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أَيِ: الْمُنْذِرُ الْمُظْهِرُ لِقَوْمِهِ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قِيلَ: الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَفْعُولُ أَنْزَلْنَا، وَالتَّقْدِيرُ: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ عَذَابًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ لَكُمْ مِنْ عَذَابٍ مِثْلِ عَذَابِ الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ «١» ، وَقِيلَ: إِنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أَنْذَرْتُكُمْ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ مِنَ الْعَذَابِ وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ، أَيْ: أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْمُقْتَسِمُونَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُقْتَسِمِينَ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُمْ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا، بَعَثَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَاقْتَسَمُوا أَنْقَابَ مَكَّةَ وَفِجَاجَهَا يَقُولُونَ لِمَنْ دَخَلَهَا: لَا تَغْتَرُّوا بِهَذَا الْخَارِجِ فِينَا فَإِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَرُبَّمَا قَالُوا سَاحِرٌ، وَرُبَّمَا قَالُوا شَاعِرٌ، وَرُبَّمَا قَالُوا كَاهِنٌ، فَقِيلَ لَهُمْ مُقْتَسِمِينَ لِأَنَّهُمُ اقتسموا هذه الطرق. وقيل:
(١) . فصلت: ١٣. [.....]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute