للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها مِنَ الْمُبَالَغَةِ، وَبِمَا فِي قَوْلِهِ: وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا تَكْرِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَمَعْنَى «فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا» فَتَزِلُّ قَدَمُ مَنِ اتَّخَذَ يَمِينَهُ دَخَلًا عَنْ مَحَجَّةِ الْحَقِّ بَعْدَ ثُبُوتِهَا عَلَيْهَا وَرُسُوخِهَا فِيهَا. قِيلَ: وَأَفْرَدَ الْقَدَمَ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ زَلَلَ قَدَمٍ وَاحِدٍ أَيُّ قَدَمٍ كَانْتْ عَزَّتْ أَوْ هَانَتْ مَحْذُورٌ عَظِيمٌ، فَكَيْفَ بِأَقْدَامٍ كَثِيرَةٍ؟ وَهَذَا اسْتِعَارَةٌ لِلْمُسْتَقِيمِ الْحَالِ يَقَعُ فِي شَرٍّ عَظِيمٍ وَيَسْقُطُ فِيهِ لِأَنَّ الْقَدَمَ إِذَا زَلَّتْ نَقَلَتِ الْإِنْسَانَ مِنْ حَالِ خَيْرٍ إِلَى حَالِ شَرٍّ، وَيُقَالُ لِمَنْ أَخْطَأَ فِي شَيْءٍ: زَلَّتْ بِهِ قَدَمُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «١» :

تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا «٢» وَقَدْ ثُلَّ عَرْشُهَا ... وَذِبْيَانُ قَدْ زَلَّتْ بِأَقْدَامِهَا النَّعْلُ

وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ أَيْ: تَذُوقُوا الْعَذَابَ السَّيِّئَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: بِسَبَبِ صُدُودِكُمْ أَنْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، أَوْ بِسَبَبِ صَدِّكُمْ لِغَيْرِكُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ مَنْ نَقَضَ الْبَيْعَةَ وَارْتَدَّ اقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ فَكَانَ فِعْلُهُ سُنَّةً سَيِّئَةً عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أَيْ: مُتَبَالِغٌ فِي الْعِظَمِ، وَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَا قَبْلَهُ عَذَابَ الدُّنْيَا.

ثُمَّ نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ عَنِ الْمَيْلِ إِلَى عَرَضِ الدُّنْيَا وَالرُّجُوعِ عَنِ الْعَهْدِ لِأَجْلِهِ فَقَالَ: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أَيْ: لَا تَأْخُذُوا فِي مُقَابَلَةِ عَهْدِكُمْ عِوَضًا يَسِيرًا حَقِيرًا، وَكُلُّ عَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَإِنْ كَانَ فِي الصُّورَةِ كَثِيرًا فَهُوَ لِكَوْنِهِ ذَاهِبًا زَائِلًا يَسِيرٌ، وَلِهَذَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ تَقْلِيلِ عَرَضِ الدُّنْيَا خَيْرِيَّةَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: مَا عِنْدَهُ مِنَ النَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْغَنَائِمِ وَالرِّزْقِ الْوَاسِعِ، وَمَا عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يَنْقَطِعُ هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، ثُمَّ عَلَّلَ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا وَأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى حَقَارَةِ عَرَضِ الدُّنْيَا وَخَيْرِيَّةِ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَمَعْلُومٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ مَا يَنْفَدُ وَيَزُولُ، وَإِنْ بَلَغَ فِي الْكَثْرَةِ إِلَى أَيِّ مَبْلَغٍ فَهُوَ حَقِيرٌ يَسِيرٌ، وَمَا كَانَ يَبْقَى وَلَا يَزُولُ فَهُوَ كَثِيرٌ جَلِيلٌ، أَمَّا نَعِيمِ الْآخِرَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا نَعِيِمُ الدُّنْيَا الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ زَائِلًا، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَّصِلًا بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فِي حُكْمِ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ، أَيْ: لَنَجْزِيَنَّهُمْ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى مَا نَالَهُمْ مِنْ مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ وَجِهَادِ الْكَافِرِينَ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا يَنَالُهُمْ مِنْهُمْ مِنَ الْإِيذَاءِ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الطَّاعَاتِ. قِيلَ: وَإِنَّمَا خَصَّ أَحْسَنَ أَعْمَالِهِمْ، لِأَنَّ مَا عَدَاهُ وَهُوَ الْحَسَنُ مُبَاحٌ، وَالْجَزَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الطَّاعَةِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ بِجَزَاءٍ أَشْرَفَ وَأَوْفَرَ مِنْ عَمَلِهِمْ، كَقَوْلِهِ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «٣»


(١) . هو زهير بن أبي سلمى.
(٢) . في اللسان: الأحلاف.
(٣) . الأنعام: ١٦٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>