للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ مَنْ تَابَ مِنْكُمْ. وَلَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ بَعْضٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَمَا يَقَعُ مِنْ سَامِعِيهِ فَقَالَ: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً جَعَلْنَا بَيْنَكَ يَا مُحَمَّدُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا، أَيْ: إِنَّهُمْ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ قِرَاءَتِكَ وَتَغَافُلِهِمْ عَنْكَ كَمَنَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ يَمُرُّونَ بِكَ وَلَا يَرَوْنَكَ. ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَمَعْنَى مَسْتُورًا سَاتِرٌ.

قَالَ الْأَخْفَشُ: أَرَادَ سَاتِرًا، وَالْفَاعِلُ قَدْ يَكُونُ فِي لَفْظِ الْمَفْعُولِ كَمَا تَقُولُ: إِنَّكَ لَمَشْئُومٌ وَمَيْمُونٌ، وَإِنَّمَا هو شائم ويا من وَقِيلَ: مَعْنَى مَسْتُورًا ذَا سِتْرٍ، كَقَوْلِهِمْ سَيْلٌ مُفْعَمٌ: أَيْ ذُو إِفْعَامٍ، وَقِيلَ: هُوَ حِجَابٌ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ فَهُوَ مَسْتُورٌ عَنْهَا، وَقِيلَ: حِجَابٌ مِنْ دُونِهِ حِجَابٌ فَهُوَ مَسْتُورٌ بِغَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحِجَابِ الْمَسْتُورُ الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً الْأَكِنَّةُ: جَمْعُ كِنَانٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْأَنْعَامِ، وَقِيلَ: هُوَ حِكَايَةٌ لِمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ «١» وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «٢» وأَنْ يَفْقَهُوهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَوْ لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ، أَيْ: يَفْهَمُوا مَا فِيهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْحِكَمِ وَالْمَعَانِي وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أَيْ: صَمَمًا وَثَقَلًا، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَسْمَعُوهُ. وَمِنْ قَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَذْكُرَ آلِهَتُهُمْ كَمَا يَذْكُرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا سَمِعُوا ذِكْرَ اللَّهِ دُونَ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ نَفَرُوا عَنِ الْمَجْلِسِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أَيْ: وَاحِدًا غَيْرَ مَشْفُوعٍ بِذِكْرِ آلِهَتِهِمْ، فَهُوَ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً هُوَ مَصْدَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ:

هَرَبُوا نُفُورًا، أَوْ نَفَرُوا نُفُورًا وَقِيلَ: جَمْعُ نَافِرٍ كَقَاعِدٍ وَقُعُودٍ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ: أَيْ: وَلَّوْا نَافِرِينَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أَيْ: يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ مُتَلَبِّسِينَ بِهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِكَ وَبِالْقُرْآنِ وَاللَّغْوِ فِي ذِكْرِكَ لِرَبِّكَ وَحْدَهُ، وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَالظَّرْفُ فِي إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ مُتَعَلِّقٍ بِأَعْلَمَ، أَيْ: نَحْنُ أَعْلَمُ وَقْتَ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِلْوَعِيدِ، وَقَوْلُهُ: وَإِذْ هُمْ نَجْوى مُتَعَلِّقٌ بِأَعْلَمَ أَيْضًا، أَيْ: وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقْتَ تَنَاجِيهِمْ، وَقَدْ كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ بَيْنَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، يَقُولُ: بَدَلٌ مِنْ إِذْ هُمْ نَجْوى. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أَيْ: يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِينَ عِنْدَ تَنَاجِيهِمْ: مَا تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا سُحِرَ فَاخْتَلَطَ عَقْلُهُ وَزَالَ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ.

قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمَسْحُورُ: الذَّاهِبُ الْعَقْلِ الَّذِي أُفْسِدَ مِنْ قَوْلِهِمْ طَعَامٌ مَسْحُورٌ إِذَا أُفْسِدَ عَمَلُهُ، وَأَرْضٌ مَسْحُورَةٌ: أَصَابَهَا مِنَ الْمَطَرِ أَكْثَرُ مِمَّا يَنْبَغِي فَأَفْسَدَهَا. وَقِيلَ: الْمَسْحُورُ: الْمَخْدُوعُ لِأَنَّ السِّحْرَ حِيلَةٌ وَخَدِيعَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَلَّمُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ، وَكَانُوا يَخْدَعُونَهُ بِذَلِكَ التَّعْلِيمِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:

مَعْنَى مَسْحُورًا أَنَّ لَهُ سَحْرًا أَيْ: رِئَةً، فَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَهُوَ مِثْلُكُمْ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلْجَبَانِ: قَدِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مَسْحُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

أَرَانَا موضعين لأمر غيب «٣» ... ونسحر بالطّعام وبالشّراب


(١) . البقرة: ٨٨.
(٢) . فصلت: ٥. [.....]
(٣) . «موضعين» : مسرعين. «لأمر غيب» : أي للموت المغيّب.

<<  <  ج: ص:  >  >>