فَتَحَرَّكَ وَاضْطَرَبَ فِي الْمِكْتَلِ، ثُمَّ انْسَرَبَ فِي الْبَحْرِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً انْتِصَابُ سَرَبًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لاتخذ، أَيِ: اتَّخَذَ سَبِيلًا سَرَبًا، وَالسَّرَبُ: النَّفَقُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْأَرْضِ لِلضَّبِّ وَنَحْوِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمْسَكَ جَرْيَةَ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي انْسَرَبَ فِيهِ الْحُوتُ، فَصَارَ كَالطَّاقِ، فَشَبَّهَ مَسْلَكِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ مَعَ بَقَائِهِ وَانْجِيَابِ الْمَاءِ عَنْهُ بِالسَّرَبِ الَّذِي هُوَ الْكُوَّةُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْأَرْضِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمَّا وَقَعَ فِي الْمَاءِ جَمَدَ مَذْهَبُهُ فِي الْبَحْرِ فَكَانَ كَالسَّرَبِ، فَلَمَّا جَاوَزَا ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَتْ عِنْدَهُ الصَّخْرَةُ وَذَهَبَ الْحُوتُ فِيهِ انْطَلَقَا، فَأَصَابَهُمَا مَا يُصِيبُ الْمُسَافِرَ مِنَ النَّصَبِ وَالْكَلَالِ، وَلَمْ يَجِدَا النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَا الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْخَضِرُ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: فَلَمَّا جاوَزا أَيْ: مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ الَّذِي جُعِلَ مَوْعِدًا لِلْمُلَاقَاةِ قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا وهو ما يأكل بِالْغَدَاةِ، وَأَرَادَ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْحُوتِ الَّذِي حَمَلَاهُ مَعَهُمَا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً أَيْ: تَعَبًا وَإِعْيَاءً، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ سَفَرِنَا هَذَا إِلَى السَّفَرِ الْكَائِنِ مِنْهُمَا بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَجِدَا النَّصَبَ إِلَّا فِي ذَلِكَ دُونَ مَا قَبْلَهُ قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أَيْ: قَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ تَعْجِيبُهُ لِمُوسَى مِمَّا وَقَعَ لَهُ مِنَ النِّسْيَانِ هُنَاكَ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ الْأَمْرِ مِمَّا لَا يُنْسَى لِأَنَّهُ قَدْ شَاهَدَ أَمْرًا عَظِيمًا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ الْبَاهِرَةِ، وَمَفْعُولُ أَرَأَيْتَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتَ مَا دَهَانِي، أَوْ نَابَنِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ. وَتِلْكَ الصَّخْرَةُ كَانَتْ عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ الَّذِي هُوَ الْمَوْعِدُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا دُونَ أَنْ يَذْكُرَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ لِكَوْنِهَا مُتَضَمِّنَةً لِزِيَادَةِ تَعْيِينِ الْمَكَانِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمَعُ مَكَانًا مُتَّسِعًا يَتَنَاوَلُ مَكَانَ الصَّخْرَةِ وَغَيْرَهُ، وَأَوْقَعَ النِّسْيَانَ عَلَى الْحُوتِ دُونَ الْغَدَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْغَدَاءَ الْمَطْلُوبَ هُوَ ذَلِكَ الْحُوتُ الَّذِي جَعَلَاهُ زَادًا لَهُمَا، وَأَمَارَةً لِوَجَدَانِ مَطْلُوبِهِمَا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَجْرِي مَجْرَى السَّبَبِ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ النِّسْيَانِ، فَقَالَ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ بما يقع منه من الوسوسة، وأَنْ أَذْكُرَهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَنْسَانِيهِ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: «وَمَا أَنْسَانِيهِ أَنْ أَذْكُرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ» . وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً انْتِصَابُ عَجَبًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي كَمَا مَرَّ فِي سَرَبًا، وَالظَّرْفُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ يُوشَعَ، أَخْبَرَ مُوسَى أَنَّ الْحُوتَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ عَجَبًا لِلنَّاسِ، وَمَوْضِعُ التَّعَجُّبِ أَنْ يَحْيَا حُوتٌ قَدْ مَاتَ وَأُكِلَ شِقُّهُ، ثُمَّ يَثِبُ إِلَى الْبَحْرِ، وَيَبْقَى أَثَرُ جَرْيَتِهِ فِي الْمَاءِ لَا يَمْحُو أَثَرَهَا جَرَيَانُ مَاءِ الْبَحْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِبَيَانِ طَرَفٍ آخَرَ مِنْ أَمْرِ الْحُوتِ، فَيَكُونُ مَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ اعْتِرَاضًا قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ أَيْ: قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتَ مِنْ فَقْدِ الْحُوتِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ هُوَ الَّذِي كُنَّا نَطْلُبُهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي نُرِيدُهُ هُوَ هُنَالِكَ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أَيْ: رَجَعَا عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي جَاءَا مِنْهَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا لِئَلَّا يُخْطِئَا طَرِيقَهُمَا، وَانْتِصَابُ قَصَصًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: قَاصِّينَ أَوْ مُقْتَصِّينَ، وَالْقَصَصُ فِي اللُّغَةِ: اتِّبَاعُ الْأَثَرِ فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا هُوَ الْخَضِرُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَخَالَفَ فِي ذلك ما لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ لَيْسَ هُوَ الْخَضِرَ بَلْ عَالِمٌ آخَرُ، قِيلَ: سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ، قِيلَ: وَاسْمُهُ بَلِيَا بْنُ مِلْكَانَ، ثُمَّ وَصَفَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: آتَيْناهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute