قَوْلُهُ: فَانْطَلَقا أَيْ: مُوسَى وَالْخَضِرُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ يَطْلُبَانِ السَّفِينَةَ، فَمَرَّتْ بِهِمْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ فَحَمَلُوهُمْ حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قِيلَ: قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِهَا، وَقِيلَ: لَوْحَيْنِ مِمَّا يَلِي الْمَاءَ، وَقِيلَ: خَرَقَ جِدَارَ السَّفِينَةِ لِيَعِيبَهَا، وَلَا يَتَسَارَعُ الْغَرَقُ إِلَى أَهْلِهَا قالَ مُوسَى: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أَيْ: لَقَدْ أَتَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا، يُقَالُ: أَمِرَ الْأَمْرُ إِذَا كَبُرَ، وَالْأَمْرُ: الِاسْمُ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَمْرُ: الدَّاهِيَةُ الْعَظِيمَةُ وَأَنْشَدَ:
قَدْ لَقِيَ الْأَقْرَانُ مِنِّي نُكْرًا ... داهية دهياء إدّا «١» إمرا
وقال القتبي: الْأَمْرُ: الْعَجَبُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَمِرَ أَمْرُهُ يَأْمُرُ إِذَا اشْتَدَّ، وَالِاسْمُ الْأَمْرُ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ لِيَغْرَقَ أَهْلُهَا بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَرَفْعِ أَهْلِهَا عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ الْمَضْمُومَةِ وَنَصْبِ أَهْلِهَا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ قالَ أَيْ: الْخَضِرُ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أَذْكَرَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ لَهُ سَابِقًا: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ف قالَ لَهُ مُوسَى لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِنِسْيَانِي أَوْ مَوْصُولَةً، أَيْ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِالَّذِي نسيته، وهو قول الخضر: فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فَالنِّسْيَانُ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ مُوسَى نَسِيَ ذَلِكَ، أَوْ بِمَعْنَى التَّرْكِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَمْ يَنْسَ مَا قَالَهُ لَهُ، وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً قَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَرْهَقْتُهُ عُسْرًا: إِذَا كَلَّفْتَهُ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى عَامِلْنِي بِالْيُسْرِ لَا بِالْعُسْرِ. وَقُرِئَ عُسُرًا بِضَمَّتَيْنِ فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ أَيْ: الْخَضِرُ، وَلَفْظُ الْغُلَامِ يَتَنَاوَلُ الشَّابَّ الْبَالِغَ كَمَا يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ، قِيلَ: كَانَ الْغُلَامُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَاقْتَلَعَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ قالَ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأُوَيْسٌ بِأَلِفٍ بَعْدَ الزَّايِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ اسْمُ فَاعِلٍ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ دُونِ أَلِفٍ، الزَّاكِيَةُ: الْبَرِيئَةُ مِنَ الذُّنُوبِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الزَّاكِيَةُ: الَّتِي لَمْ تُذْنِبْ، وَالزَّكِيَّةُ: الَّتِي أَذْنَبَتْ ثُمَّ تَابَتْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الزَّاكِيَةُ وَالزَّكِيَّةُ لُغَتَانِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الزَّاكِيَةُ وَالزَّكِيَّةُ مِثْلُ الْقَاسِيَةِ وَالْقَسِيَّةِ، وَمَعْنَى بِغَيْرِ نَفْسٍ بِغَيْرِ قَتْلِ نَفْسٍ مُحَرَّمَةٍ حَتَّى يَكُونَ قَتْلُ هَذِهِ قِصَاصًا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أَيْ: فَظِيعًا مُنْكَرًا لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ. قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْكَرُ مِنَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ لِكَوْنِ الْقَتْلِ لَا يُمَكِنُ تَدَارُكُهُ، بِخِلَافِ نَزْعِ اللَّوْحِ مِنَ السَّفِينَةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بِإِرْجَاعِهِ وَقِيلَ: النُّكْرُ أَقَلُّ مِنَ الْإِمْرِ لِأَنَّ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَهْوَنُ مِنْ إِغْرَاقِ أَهْلِ السَّفِينَةِ. قِيلَ: اسْتَبْعَدَ مُوسَى أَنْ يَقْتُلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَلَمْ يَتَأَوَّلْ للخضر بأنه يحلّ القتل بأسباب أخرى قالَ الْخَضِرُ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً زَادَ هُنَا لَفْظَ لَكَ لِأَنَّ سَبَبَ الْعِتَابِ أَكْثَرُ، وَمُوجِبَهُ أَقْوَى وَقِيلَ: زَادَ لَفْظُ لَكَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ كَمَا تَقُولُ لمن توبّخه:
(١) . في المطبوع: وأمرا، والمثبت من مجاز القرآن (١/ ٤٠٩) وتفسير القرطبي (١١/ ١٩) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute