فَاعِلِ ضَلَّ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ فِي ذَلِكَ مُنْتَفِعُونَ بِآثَارِهِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ مُسْتَأْنَفَةً مَسُوقَةً لِتَكْمِيلِ الْخُسْرَانِ وَبَيَانِ سَبَبِهِ، هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الأوّل الراجح لا على الوجوه الآخرة، فَإِنَّهَا هِيَ الْجَوَابُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ: كُفْرُهُمْ بِدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ مِنَ الْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةِ وَالتَّنْزِيلِيَّةِ، وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِلِقَائِهِ: كُفْرُهُمْ بِالْبَعْثِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أَيْ: الَّتِي عَمِلُوهَا مِمَّا يَظُنُّونَهُ حَسَنًا، وَهُوَ خُسْرَانٌ وَضَلَالٌ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أَيْ: لَا يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَنَا قَدْرٌ وَلَا نَعْبَأُ بِهِمْ، وَقِيلَ: لَا يُقَامُ لَهُمْ مِيزَانٌ تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَهَؤُلَاءِ لَا حَسَنَاتٍ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَرَبُ تَقُولُ مَا لِفُلَانٍ عِنْدَنَا وَزْنٌ، أَيْ: قَدْرٌ لِخِسَّتِهِ، وَيُوصَفُ الرَّجُلُ بِأَنَّهُ لَا وَزْنَ لَهُ لِخِفَّتِهِ، وَسُرْعَةِ طَيْشِهِ، وَقِلَّةِ تَثَبُّتِهِ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرٌ وَلَا مَنْزِلَةٌ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ يُقِيمُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ: فَلَا يُقِيمُ اللَّهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ عَاقِبَةَ هَؤُلَاءِ وَمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فَقَالَ: ذلِكَ أَيْ: الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ جَزَاؤُهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: جَهَنَّمُ عَطْفَ بَيَانٍ لِلْجَزَاءِ، أَوْ جُمْلَةُ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ مُبْتَدَأٌ وخبر الجملة خَبَرُ ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ ضَمُّوا إِلَى الْكُفْرِ اتِّخَاذَ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّخَاذَ رُسُلِهِ هُزُوًا، فَالْبَاءُ فِي بِما كَفَرُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ هُزُوًا أَنَّهُمْ مَهْزُوءٌ بِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، فَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقِيلَ: كُفَّارُ مَكَّةَ، وَقِيلَ: الْخَوَارِجُ، وَقِيلَ: الرُّهْبَانُ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ لِكُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذَا الْوَعِيدِ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْوَعْدَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَهُمَا حَتَّى كَانُوا عَلَى ضِدِّ صِفَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ كانَتْ لَهُمْ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: كَانَتْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ كَانَتْ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْفِرْدَوْسُ فِيمَا سَمِعْتُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ وَالْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْعِنَبُ. وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْفِرْدَوْسَ الْبُسْتَانُ بِاللُّغَةِ الرُّومِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ النُّزُلِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وَالْمَعْنَى:
كَانَتْ لَهُمْ ثِمَارُ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا مُعَدًّا لَهُمْ مُبَالَغَةً فِي إِكْرَامِهِمْ، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْحِوَلُ مَصْدَرٌ، أَيْ: لَا يَطْلُبُونَ تَحَوُّلًا عَنْهَا إِذْ هِيَ أَعْزُ مِنْ أَنْ يَطْلُبُوا غَيْرَهَا، أَوْ تَشْتَاقَ أَنْفُسُهُمْ إِلَى سِوَاهَا. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ:
الْحِوَلُ اسْمٌ بِمَعْنَى التَّحَوُّلِ يَقُومُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ الْحِوَلَ التَّحْوِيلُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ الْآيَةَ قَالَ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً قَالَ: لَا يَعْقِلُونَ سَمْعًا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال أبو عبيد بِجَزْمِ السِّينِ وَضَمِّ الْبَاءِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute