للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ: لَا نُؤْمِنُ بِبَعْضِهِمْ وَنَكْفُرُ بِبَعْضِهِمْ كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَأَحَدٌ: فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ دُخُولُ بَيْنَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ هَذَا الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، أَيْ: فَإِنْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ مِنْ جَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَعَلَى هَذَا: فَمِثْلُ زَائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ:

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «١» وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَصِيرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ

وَقِيلَ: إِنَّ الْمُمَاثَلَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ، أَيْ: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ إِيمَانِكُمْ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّبْكِيتِ، لِأَنَّ دِينَ الْحَقِّ وَاحِدٌ لَا مِثْلَ لَهُ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، قَالَ: أَيْ: فَإِنْ حَصَّلُوا دِينًا آخَرَ مِثْلَ دِينِكُمْ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلِاسْتِعَانَةِ. وَالشِّقَاقُ أَصْلُهُ مِنَ الشَّقِّ وَهُوَ الْجَانِبُ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي جَانِبٍ غَيْرِ الْجَانِبِ الَّذِي فِيهِ الْآخَرُ وَقِيلَ:

إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلِ مَا يَشُقُّ وَيَصْعُبُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَحْرِصُ عَلَى فِعْلِ مَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيَصِحُّ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا في شقاق

وقول الآخر:

إلى كم تقتل العلماء قسرا ... وتفجر بِالشِّقَاقِ وَبِالنِّفَاقِ

وَقَوْلُهُ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ سَيَكْفِيهِ مَنْ عَانَدَهُ وَخَالَفَهُ مِنَ الْمُتَوَلِّينَ، وَقَدْ أَنْجَزَ لَهُ وَعْدَهُ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ بَأْسِهِ بِقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ. وَقَوْلُهُ: صِبْغَةَ اللَّهِ قَالَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ:

أَيْ: دِينَ اللَّهِ، قَالَ: وَهِيَ مُنْتَصِبَةٌ عَلَى البدل من ملة. وقال الكسائي: هي منصوبة على تقدير اتبعوا، أو على الإغراء، أي: الزموا، ورجّح الزجاج الانتصاب عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مِلَّةَ، كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ:

إِنَّهَا مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ مُنْتَصِبٌ عَنْ قَوْلِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ كَمَا انْتَصَبَ- وَعْدَ اللَّهِ- عَمَّا تَقَدَّمَهُ وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنْ صَبَغَ، كَالْجِلْسَةِ مِنْ جَلَسَ، وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الصَّبْغُ، وَالْمَعْنَى: تَطْهِيرُ اللَّهِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ تَطْهِيرُ النُّفُوسِ. انْتَهَى، وَبِهِ قَالَ سِيبَوَيْهِ، أَيْ: كَوْنِهِ مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَصْبُغُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي الْمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ: الْمَعْمُودِيَّةَ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ تَطْهِيرًا لَهُمْ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ قَالُوا الْآنَ صَارَ نَصْرَانِيًّا حَقًّا، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ أَيِ: الْإِسْلَامَ، وَسَمَّاهُ صِبْغَةً:

اسْتِعَارَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِ شُعَرَاءِ هَمْدَانَ:

وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغَةٌ ... وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغِ

صَبَغْنَا عَلَى ذَاكَ أَوْلَادَنَا ... فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا فِي الصّبغ


(١) . الشورى: ١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>