للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلُهُ: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أَيِ: انْصَرَفَ مِنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ لَيُهَيِّئَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا تَوَاعَدَا عَلَيْهِ، وَقِيلَ:

مَعْنَى تَوَلَّى أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَجَمَعَ كَيْدَهُ أَيْ: جَمَعَ مَا يَكِيدُ بِهِ مِنْ سِحْرِهِ وَحِيلَتِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ جَمَعَ السَّحَرَةَ، قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ أربعمائة، وقيل: اثنا عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا ثُمَّ أَتى أَيْ: أَتَى الْمَوْعِدُ الَّذِي تَوَاعَدَا إِلَيْهِ مَعَ جَمْعِهِ الَّذِي جَمَعَهُ، وَجُمْلَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً دَعَا عَلَيْهِمْ بِالْوَيْلِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ وَيْلًا. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِدَاءً كَقَوْلِهِ: يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «١» . فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ السُّحْتُ: الِاسْتِئْصَالُ، يُقَالُ: سَحَتَ وَأَسْحَتَ بِمَعْنًى، وَأَصْلُهُ اسْتِقْصَاءُ الشَّعْرِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا شُعْبَةَ فَيُسْحِتَكُمْ بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ مِنْ أَسْحَتَ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهِ مَنْ سَحَتَ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِلنَّهْيِ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى أَيْ: خَسِرَ وَهَلَكَ وَالْمَعْنَى: قَدْ خَسِرَ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ أَيَّ كَذِبٍ كَانَ فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أَيِ: السَّحَرَةُ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ مُوسَى تَنَاظَرُوا وَتَشَاوَرُوا وَتَجَاذَبُوا أَطْرَافَ الْكَلَامِ فِي ذلك وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي: من موسى، وكان نَجْوَاهُمْ هِيَ قَوْلَهُمْ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ تَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى سِحْرًا فَسَنَغْلِبُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَسَيَكُونُ لَهُ أَمْرٌ وَقِيلَ: الَّذِي أَسَرُّوهُ أَنَّهُ إِذَا غَلَبَهُمُ اتَّبَعُوهُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَقِيلَ: الَّذِي أَسَرُّوهُ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَ مُوسَى: «وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ» ، قَالُوا: «مَا هَذَا بِقَوْلِ سَاحِرٍ» . وَالنَّجْوَى: الْمُنَاجَاةُ، يَكُونُ اسْمًا وَمَصْدَرًا.

قَرَأَ أَبُو عمرو إنّ هذين لَسَاحِرَانِ بِتَشْدِيدِ الْحَرْفِ الدَّاخِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَبِالْيَاءِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى إِعْمَالِ إِنَّ عَمَلَهَا الْمَعْرُوفَ، وَهُوَ نَصْبُ الِاسْمِ وَرَفْعُ الْخَبَرِ وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِهَا قَرَأَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَبِهَا قَرَأَ عَاصِمٌ الجحدري وعيسى ابن عُمَرَ كَمَا حَكَاهُ النَّحَّاسُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُوَافِقَةٌ لِلْإِعْرَابِ الظَّاهِرِ، مُخَالِفَةٌ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ إِنْ هذانِ بِتَخْفِيفِ إِنْ عَلَى أَنَّهَا نَافِيَةٌ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُوَافِقَةٌ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ وَلِلْإِعْرَابِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ مِثْلَ قِرَاءَتِهِمْ إِلَّا أَنَّهُ يُشَدِّدُ النُّونَ مِنْ «هَذَانِ» . وَقَرَأَ الْمَدَنِيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ إِنْ هذانِ بِتَشْدِيدِ إِنَّ وَبِالْأَلِفِ، فَوَافَقُوا الرَّسْمَ وَخَالَفُوا الْإِعْرَابَ الظَّاهِرَ. وَقَدْ تَكَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي توجيه قراءة المدنيين


(١) . يس: ٥٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>