للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدُّنْيَا فَقَضَاؤُكَ وَحُكْمُكَ مُنْحَصِرٌ فِي ذَلِكَ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا الَّتِي سَلَفَتْ مِنَّا مِنَ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ مَعْطُوفٌ عَلَى «خَطَايَانَا» ، أَيْ: وَيَغْفِرُ لَنَا الَّذِي أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ السِّحْرِ فِي مُعَارَضَةِ مُوسَى، فَمَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقِيلَ: هِيَ نَافِيَةٌ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ مَوْضُوعٌ عَنَّا وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى أَيْ: خَيْرٌ مِنْكَ ثَوَابًا وَأَبْقَى مِنْكَ عِقَابًا، وَهَذَا جَوَابُ قَوْلِهِ: «وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى» . إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى الْمُجْرِمُ: هُوَ الْمُتَلَبِّسُ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَمَعْنَى «لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» : أَنَّهُ لَا يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ وَلَا يَحْيَا حَيَاةً تَنْفَعُهُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يَمُوتُ مَيْتَةً مُرِيحَةً، وَلَا يَحْيَا حَيَاةً مُمْتِعَةً، فَهُوَ يَأْلَمُ كَمَا يَأْلَمُ الْحَيُّ، وَيَبْلُغُ بِهِ حَالُ الْمَوْتِ فِي الْمَكْرُوهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ فِيهَا عَنْ إِحْسَاسِ الْأَلَمِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ لَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُنْتَفِعٍ بِحَيَاتِهِ. وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا:

أَلَا مِنْ لِنَفْسٍ لَا تَمُوتُ فَيَنْقَضِي ... شَقَاهَا وَلَا تَحْيَا حَيَاةً لَهَا طَعْمُ

وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جُمْلَةِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ قَوْلِ السَّحَرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، وَالضَّمِيرُ فِي «إِنَّهُ» عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلشَّأْنِ. وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ أَيْ: وَمَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُصَدِّقًا بِهِ قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، أَيِ: الطَّاعَاتِ، وَالْمَوْصُوفُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ، وَجُمْلَةُ «قَدْ عَمِلَ» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَهَكَذَا مُؤْمِنًا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، وَالْإِشَارَةُ بِ فَأُولئِكَ إلى من باعتبار معناه لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى أَيِ: الْمَنَازِلُ الرَّفِيعَةُ الَّتِي قَصَرَتْ دُونَهَا الصِّفَاتُ جَنَّاتُ عَدْنٍ بَيَانٌ لِلدَّرَجَاتِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا، وَالْعَدْنُ: الْإِقَامَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَجُمْلَةُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ حَالٌ مِنَ الْجَنَّاتِ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى عَدْنٍ، وَعَدْنٌ عَلَمٌ لِلْإِقَامَةِ كَمَا سَبَقَ، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ فِي «لَهُمْ» ، أَيْ: مَاكِثِينَ دَائِمِينَ، وَالإشارة ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ، وهو مبتدأ، وجَزاءُ مَنْ تَزَكَّى خَبَرُهُ، أَيْ: جَزَاءُ مَنْ تَطَهَّرَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ قَالَ: أَخَذَ فِرْعَوْنُ أَرْبَعِينَ غُلَامًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرَ أَنْ يُعَلَّمُوا السِّحْرَ بِالْفَرَمَا «١» قَالَ: عَلِّمُوهُمْ تَعْلِيمًا لَا يَغْلِبُهُمْ أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَهُمْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى قَالَ: خَيْرٌ مِنْكَ إِنْ أُطِيعَ، وَأَبْقَى مِنْكَ عَذَابًا إِنْ عُصِيَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يموتون


(١) . «الفرما» : مدينة بمصر.

<<  <  ج: ص:  >  >>