كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ طُغْيَانٌ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي هَذَا جَوَابُ النَّهْيِ أَيْ: يَلْزَمُكُمْ غَضَبِي وَيَنْزِلُ بِكُمْ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ حُلُولِ الدَّيْنِ، أَيْ: حُضُورِ وَقْتِ أَدَائِهِ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْكِسَائِيُّ فَيَحِلَّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَذَلِكَ قَرَءُوا «يَحْلُلْ» بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْكَسْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الضَّمِّ لِأَنَّ الضَّمَّ مِنَ الْحُلُولِ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ، وَيَحِلُّ بِالْكَسْرِ يَجِبُ، وَجَاءَ التَّفْسِيرُ بِالْوُجُوبِ لَا بِالْوُقُوعِ، وَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ.
وَمَعْنَى فَقَدْ هَوى: فقد هلك. قَالَ الزَّجَّاجُ فَقَدْ هَوى أَيْ: صَارَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، وَهِيَ قَعْرُ النَّارِ، مِنْ هَوَى يَهْوِي هَوْيًا، أَيْ: سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَهَوَى فُلَانٌ، أَيْ: مَاتَ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أَيْ: لِمَنْ تَابَ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي أَعْظَمُهَا الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمَلِ عَمَلًا صَالِحًا مِمَّا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ وَحَسَّنَهُ ثُمَّ اهْتَدى أَيِ: اسْتَقَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَمُوتَ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: لَمْ يَشُكَّ فِي إِيمَانِهِ، وَقِيلَ: أَقَامَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقِيلَ: تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيَهْتَدِيَ بِهِ، وَقِيلَ: عَلِمَ أَنَّ لِذَلِكَ ثَوَابًا وَعَلَى تَرْكِهِ عِقَابًا، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ مِمَّا بَعْدَهُ. وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى هَذَا حِكَايَةٌ لِمَا جَرَى بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ مُوسَى عِنْدَ مُوَافَاتِهِ الْمِيقَاتَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
وَكَانَتِ الْمُوَاعَدَةُ أَنْ يُوَافِيَ مُوسَى وَجَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ قَوْمِهِ، فَسَارَ مُوسَى بِهِمْ، ثُمَّ عَجَّلَ مِنْ بَيْنِهِمْ شَوْقًا إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مَا أَعَجَلَكَ؟ أَيْ: مَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى الْعَجَلَةِ حَتَّى تَرَكْتَ قَوْمَكَ وَخَرَجتَ مِنْ بَيْنِهِمْ؟ فَأَجَابَ مُوسَى عَنْ ذَلِكَ قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أَيْ: هُمْ بِالْقُرْبِ مِنِّي، تَابِعُونَ لِأَثَرِي، وَاصِلُونَ بَعْدِي.
وَقِيلَ: لَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ يَسِيرُونَ خَلْفَهُ، بَلْ أَرَادَ أَنَّهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ يَنْتَظِرُونَ عَوْدَهُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ مُصَرِّحًا بِسَبَبِ مَا سَأَلَهُ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أَيْ: لِتَرْضَى عَنِّي بِمُسَارَعَتِي إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِكَ أَوْ لِتَزْدَادَ رِضًا عَنِّي بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قال عيسى بن عمر: بنو تيم يقولون أولى مَقْصُورَةً، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ أُولاءِ مَمْدُودَةً. وَقَرَأَ ابن أبي إسحاق ونصر وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَلى أَثَرِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَمَعْنَى «عَجِلْتُ إِلَيْكَ» : عَجِلْتُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرْتَنِي بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ لِتَرْضَى عَنِّي، يُقَالُ: رَجُلٌ عَجِلٌ وَعَجُولٌ وَعَجْلَانُ: بَيِّنُ الْعَجَلَةِ، وَالْعَجَلَةُ: خِلَافُ الْبُطْءِ.
وَجُمْلَةُ قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ اللَّهُ لَهُ؟
فَقِيلَ: قَالَ إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ، أَيِ: ابْتَلَيْنَاهُمْ وَاخْتَبَرْنَاهُمْ وَأَلْقَيْنَاهُمْ فِي فِتْنَةٍ وَمِحْنَةٍ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
صَيَّرْنَاهُمْ مَفْتُونِينَ أَشْقِيَاءَ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ مِنْ بَعْدِ انْطِلَاقِكَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ مَعَ هَارُونَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أَيْ: دَعَاهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، فَدَخَلَ فِي دِينِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الظَّاهِرِ وَفِي قَلْبِهِ مَا فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْبَقَرِ، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ تُعْرَفُ بِالسَّامِرَةِ، وَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّمَا تَخَلَّفَ مُوسَى عَنِ الْمِيعَادِ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ لِمَا صَارَ مَعَكُمْ مِنَ الْحُلِيِّ، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِإِلْقَائِهَا فِي النَّارِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْعِجْلِ مَا كَانَ فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قِيلَ: وَكَانَ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْمِهِ بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا: ذَا الْقَعْدَةِ، وَعَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْأَسَفُ: الشَّدِيدُ الْغَضَبُ، وَقِيلَ: الْحَزِينُ، وقد
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute