للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً الْهَمْسُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ صَوْتُ نَقْلِ الْأَقْدَامِ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ:

وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا يَعْنِي صَوْتَ أَخْفَافِ الْإِبِلِ.

وَقَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ نَفْسَهُ:

لَيْثٌ يَدُقُّ الْأَسَدَ الْهَمُوسَا ... والأقهبين «١» الْفِيلَ وَالْجَامُوسَا

يُقَالُ لِلْأُسْدِ: الْهَمُوسُ، لِأَنَّهُ يَهْمِسُ في الظلمة، أي: يطأ وطأ خفيا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا كُلُّ صَوْتٍ خَفِيٍّ سَوَاءٌ كَانَ بِالْقَدَمِ، أَوْ مِنَ الْفَمِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «فَلَا يَنْطِقُونَ إِلَّا هَمْسًا» يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ أَيْ: يَوْمَ يَقَعُ مَا ذَكَرَ لَا تنفع الشفاعة من شافع كائنا من كَانَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ أَيْ: إِلَّا شَفَاعَةَ مِنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أَيْ: رَضِيَ قَوْلَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، أَوْ رَضِيَ لِأَجْلِهِ قَوْلَ الشَّافِعِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ فِي أَنْ يُشْفَعَ لَهُ، وَكَانَ لَهُ قَوْلٌ يُرْضَى، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «٢» ، وَقَوْلُهُ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «٣» ، وقوله: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ «٤» . يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أَيْ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ، وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَالْمُرَادُ هُنَا جَمِيعُ الْخَلْقِ، وَقِيلَ:

الْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، أَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَعْبُدَهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهَا وَمَا خَلْفَهَا وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أَيْ: بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا تُحِيطُ عُلُومُهُمْ بِذَاتِهِ، وَلَا بِصِفَاتِهِ، وَلَا بِمَعْلُومَاتِهِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ أَيْ: ذَلَّتْ وَخَضَعَتْ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى عَنَتْ فِي اللُّغَةِ خَضَعَتْ، يقال:

عنا يَعْنُو عَنْوًا إِذَا خَضَعَ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ: عَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:

مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ

وَقِيلَ هُوَ مِنَ الْعَنَاءِ، بِمَعْنَى التَّعَبِ. وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً أَيْ: خَسِرَ مِنْ حَمَلَ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ، وَقِيلَ: هُوَ الشِّرْكُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أَيِ: الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ إِيمَانٍ، بَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْقَبُولِ فَلا يَخافُ ظُلْماً يُصَابُ بِهِ مِنْ نَقْصِ ثَوَابٍ فِي الْآخِرَةِ وَلا هَضْماً الْهَضْمُ: النَّقْصُ وَالْكَسْرُ، يُقَالُ هَضَمْتُ لَكَ مِنْ حَقِّي، أَيْ: حَطَطْتُهُ وَتَرَكْتُهُ، وَهَذَا يَهْضِمُ الطَّعَامَ، أَيْ: يُنْقِصُ ثِقَلَهُ، وَامْرَأَةٌ هَضِيمُ الْكَشْحِ، أَيْ: ضَامِرَةُ الْبَطْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَمُجَاهِدٌ «لَا يَخَفْ» بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَخافُ عَلَى الْخَبَرِ.


(١) . سمّي الفيل والجاموس أقهبين للونهما وهو الغبرة.
(٢) . الأنبياء: ٢٨.
(٣) . مريم: ٨٧.
(٤) . المدثر: ٤٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>