للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الَّذِي لِأَجْلِهِ شَابَهُوا السُّكَارَى فَقَالَ: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ

فَبِسَبَبِ هَذِهِ الشِّدَّةِ وَالْهَوْلِ الْعَظِيمِ طَاشَتْ عُقُولُهُمْ، وَاضْطَرَبَتْ أَفْهَامُهُمْ فَصَارُوا كَالسُّكَارَى، بِجَامِعِ سَلْبِ كَمَالِ التَّمْيِيزِ وَصِحَّةِ الْإِدْرَاكِ. وَقُرِئَ «وَتُرَى» بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مُسْنَدًا إِلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ أَرَأَيْتُكَ، أَيْ: تَظُنُّهُمْ سُكَارَى. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهٌ جَيِّدٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ. ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ قَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً تَشْمَلُ أَهْلَ الْجِدَالِ كُلَّهُمْ، فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ إِعْرَابُ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ «١» . وَمَعْنَى فِي اللَّهِ فِي شَأْنِ اللَّهِ وَقَدْرَتِهِ، وَمَحَلُّ بِغَيْرِ عِلْمٍ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُخَاصِمُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْبَعْثِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ، وَلَا حُجَّةٍ يُدْلِي بِهَا وَيَتَّبِعُ فِيمَا يَقُولُهُ وَيَتَعَاطَاهُ وَيَحْتَجُّ بِهِ وَيُجَادِلُ عَنْهُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ أَيْ: مُتَمَرِّدٍ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ الْعَاتِي، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِخُلُوِّهِ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمُرَادُ إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ، أَوْ رُؤَسَاءُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَدْعُونَ أَشْيَاعَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْجِدَالِ، وَكَانَ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ أَيْ: كُتِبَ عَلَى الشَّيْطَانِ وَفَاعِلُ «كُتِبَ» «أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ» ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، أَيْ: من اتخذه وَلِيًّا فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ أَيْ: فَشَأْنُ الشَّيْطَانِ أَنْ يُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، فَقَوْلُهُ: «أَنَّهُ يُضِلُّهُ» جَوَابُ الشَّرْطِ إِنْ جُعِلَتْ مَنْ شَرْطِيَّةً، أَوْ خَبَرُ الْمَوْصُولِ إِنْ جُعِلَتْ مَوْصُولَةً، فَقَدْ وُصِفَ الشَّيْطَانُ بِوَصْفَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ مَرِيدٌ، وَالثَّانِي مَا أَفَادَهُ جُمْلَةُ كُتِبَ عَلَيْهِ إِلَخْ. وَجُمْلَةُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يُضِلُّهُ أَيْ:

يَحْمِلُهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ مَا يَصِيرُ بِهِ فِي عَذَابِ السَّعِيرِ.

ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْكُفَّارِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ، فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ قَرَأَ الْحَسَنُ «الْبَعَثُ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالسُّكُونِ، وَشَكُّهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي وُقُوعِهِ أَوْ فِي إِمْكَانِهِ.. وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْإِعَادَةِ فَانْظُرُوا فِي مَبْدَأِ خَلْقِكُمْ، أَيْ: خَلْقِ أَبِيكُمْ آدَمَ، لِيَزُولَ عَنْكُمُ الرَّيْبُ وَيَرْتَفِعَ الشَّكُّ وَتُدْحَضُ الشُّبْهَةُ الْبَاطِلَةُ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ فِي ضِمْنِ خَلْقِ أَبِيكُمْ آدَمَ ثُمَّ خَلَقْنَاكُمْ مِنْ نُطْفَةٍ أَيْ: مِنْ مَنِيٍّ، سُمِّيَ نُطْفَةً لِقِلَّتِهِ، وَالنُّطْفَةُ: الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ. وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهُ، وَالنُّطْفَةُ: الْقَطْرَةُ، يُقَالُ: نَطَفَ يَنْطِفُ، أَيْ: قَطَرَ، وليلة نطوفة، أَيْ: دَائِمَةُ الْقَطْرِ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ وَالْعَلَقَةُ: الدَّمُ الْجَامِدُ، وَالْعَلَقُ: الدَّمُ الْعَبِيطُ، أَيِ: الطَّرِيُّ أَوِ الْمُتَجَمِّدِ، وَقِيلَ: الشَّدِيدُ الْحُمْرَةِ، وَالْمُرَادُ: الدَّمُ الْجَامِدُ الْمُتَكَوِّنُ مِنَ الْمَنِيِّ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ، قَدْرُ مَا يَمْضُغُ الْمَاضِغُ تَتَكَوَّنُ مِنَ الْعَلَقَةِ مُخَلَّقَةٍ بِالْجَرِّ صِفَةً لِمُضْغَةٍ، أَيْ: مُسْتَبِينَةِ الْخَلْقِ، ظَاهِرَةِ التَّصْوِيرِ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أَيْ: لَمْ يَسْتَبِنْ خَلْقُهَا وَلَا ظَهَرَ تَصْوِيرُهَا. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: «مُخَلَّقَةٍ» يُرِيدُ قَدْ بدا خلقه، و «غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» لَمْ تُصَوَّرْ. قَالَ الْأَكْثَرُ: مَا أُكْمِلَ خَلْقُهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ فَهُوَ الْمُخَلَّقَةُ وَهُوَ الذي


(١) . البقرة: ٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>