مِنَ التَّهْدِيدِ الْعَظِيمِ وَالزَّجْرِ الْبَلِيغِ مَا تَقْشَعِرُّ لَهُ الْجُلُودُ وَتَرْجُفُ مِنْهُ الْأَفْئِدَةُ، وَإِذَا كَانَ الْمَيْلُ إِلَى أَهْوِيَةِ الْمُخَالِفِينَ لِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ وَالْمِلَّةِ الشَّرِيفَةِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ وَحَاشَاهُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَقَدْ صَانَ اللَّهُ هَذِهِ الْفِرْقَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ بَعْدَ ثُبُوتِ قَدَمِ الْإِسْلَامِ وَارْتِفَاعِ مَنَارِهِ عَنْ أَنْ يَمِيلُوا إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَوَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ تَبْقَ إِلَّا دَسِيسَةٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَوَسِيلَةٌ طَاغُوتِيَّةٌ، وَهِيَ مَيْلُ بَعْضِ مَنْ تَحَمَّلَ حُجَجَ اللَّهِ إِلَى هَوَى بَعْضِ طَوَائِفِ الْمُبْتَدِعَةِ، لِمَا يَرْجُوهُ مِنَ الْحُطَامِ الْعَاجِلِ مِنْ أَيْدِيهِمْ أَوِ الْجَاهِ لَدَيْهِمْ إِنْ كَانَ لَهُمْ فِي النَّاسِ دَوْلَةٌ، أَوْ كَانُوا مِنْ ذَوِي الصَّوْلَةِ، وَهَذَا الْمَيْلُ لَيْسَ بِدُونِ ذَلِكَ الْمَيْلِ، بَلِ اتِّبَاعُ أَهْوِيَةِ الْمُبْتَدِعَةِ تُشْبِهُ اتِّبَاعَ أَهْوِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا يُشْبِهُ الْمَاءُ الْمَاءَ، وَالْبَيْضَةُ الْبَيْضَةَ، وَالتَّمْرَةُ التَّمْرَةَ وَقَدْ تَكُونُ مَفْسَدَةُ اتِّبَاعِ أَهْوِيَةِ الْمُبْتَدِعَةِ أَشَدَّ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ مِنْ مَفْسَدَةِ اتِّبَاعِ أَهْوِيَةِ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَةَ يَنْتَمُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُظْهِرُونَ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَ الدِّينَ وَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، وَهُمْ عَلَى العكس من ذلك الضدّ لِمَا هُنَالِكَ، فَلَا يَزَالُونَ يَنْقُلُونَ مَنْ يَمِيلُ إِلَى أَهَوِيَتِهِمْ مِنْ بِدْعَةٍ إِلَى بِدْعَةٍ وَيَدْفَعُونَهُ مِنْ شُنْعَةٍ إِلَى شُنْعَةٍ، حَتَّى يَسْلَخُوهُ مِنَ الدين ويخرجونه مِنْهُ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْهُ فِي الصَّمِيمِ، وَأَنَّ الصِّرَاطَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هَذَا إِنْ كَانَ فِي عِدَادِ الْمُقَصِّرِينَ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْجَاهِلِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ الْمُمَيِّزِينَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَانَ فِي اتِّبَاعِهِ لِأَهْوِيَتِهِمْ مِمَّنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ، وَصَارَ نِقْمَةً عَلَى عِبَادِ اللَّهِ وَمُصِيبَةً صَبَّهَا اللَّهُ عَلَى الْمُقَصِّرِينَ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ فِي عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ لَا يميل إلا إلى حق، وَلَا يَتَّبِعُ إِلَّا الصَّوَابَ، فَيَضِلُّونَ بِضَلَالِهِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ إِثْمُهُ وَإِثْمُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ اللُّطْفَ وَالسَّلَامَةَ وَالْهِدَايَةَ وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ قِيلَ: الضَّمِيرُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: يَعْرِفُونَ نُبُوَّتَهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقِيلَ: يَعْرِفُونَ تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ بِالطَّرِيقِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَرَجَّحَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ الْأَوَّلَ. وَعِنْدِي أَنَّ الرَّاجِحَ الآخر، يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ الَّذِي سِيقَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَاتُ. وَقَوْلُهُ: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْقَوْلِ الثَّانِي: اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ. وَقَوْلُهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَقَّ الْأَوَّلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جِنْسُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: مِنْ رَبِّكَ أَيِ: الْحَقُّ: هُوَ الَّذِي مِنْ رَبِّكَ لَا مِنْ غَيْرِهِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْحَقَّ، بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ: الْزَمِ الْحَقَّ. وَقَوْلُهُ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِامْتِرَاءُ:
الشَّكُّ، نَهَاهُ الله سبحانه عن الشك في كونه مِنْ رَبِّهِ، أَوْ فِي كَوْنِ كِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ، وَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ تَعْرِيضٌ لِلْأُمَّةِ، أَيْ: لَا يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشُكُّ فِي كَوْنِ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِشَهْرَيْنِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَكْثَرَ تَقْلِيبَ وَجْهِهِ فِي السَّمَاءِ، وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِ نَبِيِّهِ أَنَّهُ يَهْوَى الْكَعْبَةَ، فَصَعِدَ جِبْرِيلُ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute