للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَفْعُولُ يُرِدْ مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ مُرَادًا أَيْ مُرَادٍ بِإِلْحَادٍ، أَيْ: بِعُدُولٍ عَنِ الْقَصْدِ، وَالْإِلْحَادُ فِي اللُّغَةِ الْمَيْلُ، إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ الْمَيْلُ بِظُلْمٍ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الظُّلْمِ مَاذَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ الشِّرْكُ، وَقِيلَ: الشِّرْكُ وَالْقَتْلُ، وَقِيلَ: صَيْدُ حَيَوَانَاتِهِ وَقَطْعُ أَشْجَارِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَلِفُ فِيهِ بِالْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمَعَاصِي فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالضَّحَّاكِ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، حَتَّى قَالُوا: لَوْ هَمَّ الرَّجُلُ فِي الْحَرَمِ بِقَتْلِ رَجُلٍ بِعَدَنَ لَعَذَّبَهُ اللَّهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَأْخُوذًا بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ لِلظُّلْمِ، فَهِيَ مُخَصَّصَةٌ لِمَا وَرَدَ مِنْ إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْإِرَادَةَ فِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى مُجَرَّدِ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْبَحْثُ عَنْ هَذَا وَتَقْرِيرُ الْحَقِّ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَيَرْفَعُ الْإِشْكَالَ يَطُولُ جِدًّا، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثُ:

«إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟

قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» فَدَخَلَ النَّارَ هُنَا بِسَبَبِ مُجَرَّدِ حِرْصِهِ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ. وَقَدْ أَفْرَدْنَا هَذَا الْبَحْثَ بِرِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: «بِإِلْحَادٍ» إِنْ كَانَ مَفْعُولُ يُرِدْ مَحْذُوفًا كَمَا ذَكَرْنَا فَلَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَقِيلَ إِنَّهَا زَائِدَةٌ هُنَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الْفَلَجِ ... نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجِ

أَيْ: نَرْجُو الْفَرَجَ.

وَمِثْلُهُ:

أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالْأَنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لَاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادٍ «١»

أَيْ مَا لَاقَتْ.

وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا زَائِدَةٌ الْأَخْفَشُ وَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ إِلْحَادًا بِظُلْمٍ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: دَخَلَتِ الْبَاءُ لِأَنَّ الْمَعْنَى بِأَنْ يُلْحِدَ، وَالْبَاءُ مَعَ أَنَّ تَدْخُلُ وَتُحْذَفُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمَنْ يُرِدِ النَّاسَ بِإِلْحَادٍ.

وَقِيلَ إِنْ يُرِدْ مُضَمَّنٌ مَعْنَى يَهُمُّ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يَهُمُّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ. وَأَمَّا الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ «بِظُلْمٍ» فَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِسَبَبِ الظُّلْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِظُلْمٍ بَدَلًا مِنْ بِإِلْحَادٍ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حَالَيْنِ مُتَرَادِفَيْنِ. وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَيْ: وَاذْكُرْ وَقْتَ ذَلِكَ يُقَالُ: بَوَّأْتُهُ مَنْزِلًا وَبَوَّأْتُ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: مَكَّنْتُكَ وَمَكَّنْتُ لَكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ جَعَلْنَا مَكَانَ الْبَيْتِ مُبَوَّأً لِإِبْرَاهِيمَ، وَمَعْنَى بَوَّأْنَا:

بَيَّنَّا لَهُ مَكَانَ الْبَيْتِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «٢» :

كَمْ مِنْ أَخٍ لي ماجد ... بوّأته بيديّ لحدا


(١) . البيت القيس بن زهير العبسي.
(٢) . هو عمرو بن معديكرب الزبيدي.

<<  <  ج: ص:  >  >>