للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ- وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ

«١» وَمَعْنَى: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَنَّهُمْ بِسَبَبِ مَا شَاهَدُوا مِنَ الْعِبَرِ تَكُونُ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا مَا يَجِبُ أَنْ يَتَعَقَّلُوهُ، وَأَسْنَدَ التَّعَقُّلَ إِلَى الْقُلُوبِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْعَقْلِ، كَمَا أَنَّ الْآذَانَ مَحَلُّ السَّمْعِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَقْلَ مَحَلُّهُ الدِّمَاغُ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَلْبَ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى إِدْرَاكِ الْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ مَحَلُّهُ خَارِجًا عَنْهُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ فِي مَحَلِّ الْعَقْلِ وَمَاهِيَّتِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أَيْ: مَا يَجِبُ أَنْ يَسْمَعُوهُ مِمَّا تَلَاهُ عَلَيْهِمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَمَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْأَخْبَارِ إِلَيْهِمْ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَاءُ عِمَادٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، التَّذْكِيرُ عَلَى الْخَبَرِ، وَالتَّأْنِيثُ عَلَى الْأَبْصَارِ أَوِ الْقِصَّةِ، أَيْ: فَإِنَّ الْأَبْصَارَ لَا تَعْمَى، أَوْ فَإِنَّ الْقِصَّةَ لَا تُعْمِي الْأَبْصَارَ: أَيْ أَبْصَارَ الْعُيُونِ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أَيْ: لَيْسَ الْخَلَلُ فِي مَشَاعِرِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي عُقُولِهِمْ، أَيْ: لَا تُدْرِكُ عُقُولُهُمْ مُوَاطِنَ الْحَقِّ وَمَوَاضِعَ الِاعْتِبَارِ.

قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّ قَوْلَهُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ مِنَ التَّوْكِيدِ الَّذِي تَزِيدُهُ الْعَرَبُ فِي الْكَلَامِ كقوله: عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «٢» ويَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ «٣» ويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «٤» . ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فَقَالَ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِمَجِيئِهِ أَشَدَّ إِنْكَارٍ، فَاسْتِعْجَالُهُمْ لَهُ هُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ لِمَا تَقُولُهُ الْأَنْبِيَاءُ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْوَعْدِ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِمْ وَحُلُولِهِ بِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعِيدٌ لَهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَهُ وَأَلْفَ سَنَةٍ فِي قُدْرَتِهِ وَاحِدٌ، ولا فرق بين وقوع ما يستعجلون بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَتَأَخُّرِهِ فِي الْقُدْرَةِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ بِالْإِمْهَالِ، انْتَهَى، وَمَحَلُّ جُمْلَةِ: «وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ» النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَدًا، وَقَدْ سَبَقَ الْوَعْدُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَجِيئِهِ حَتْمًا، أَوْ هِيَ اعْتِرَاضِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ جُمْلَةُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَعَلَى الثَّانِي تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مَسُوقَةً لِبَيَانِ حَالِهِمْ فِي الِاسْتِعْجَالِ، وَخِطَابُهُمْ فِي ذَلِكَ بِبَيَانِ كَمَالِ حِلْمِهِ لَكَوْنِ الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ عِنْدَهُ كَالْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ عِنْدَهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً- وَنَراهُ قَرِيباً «٥» قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِامْتِدَادِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَأَلْفِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِنَّ يَوْمًا مِنَ الْخَوْفِ وَالشِّدَّةِ فِي الْآخِرَةِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا فِيهَا خَوْفٌ وَشِدَّةٌ، وكذلك يوم النعيم قياسا. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «ممّا يعدّون» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عَبِيدٍ لِقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو حَاتِمٍ. وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ هَذَا إِعْلَامٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَخَذَ قَوْمًا بَعْدَ الْإِمْلَاءِ وَالتَّأْخِيرِ. قِيلَ: وَتَكْرِيرُ هَذَا مَعَ ذِكْرِهِ قبله


(١) . الصافات: ١٣٧- ١٣٨.
(٢) . البقرة: ١٩٦.
(٣) . آل عمران: ١٦٧.
(٤) . الأنعام: ٣٨. [.....]
(٥) . المعارج: ٦- ٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>