عِبَادِهِ، وَقَدْ جَمَعَ الْعَهْدُ وَالْأَمَانَةُ كُلَّ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالْأَمَانَةُ أَعَمُّ مِنَ الْعَهْدِ، فَكُلُّ عَهْدٍ أَمَانَةٌ، وَمَعْنَى «رَاعُونَ» : حَافِظُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ صَلَواتِهِمْ بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «صَلَاتِهِمْ» بِالْإِفْرَادِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْإِفْرَادِ فَقَدْ أَرَادَ اسْمَ الْجِنْسِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَاةِ: إِقَامَتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَإِتْمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَقِرَاءَتِهَا وَالْمَشْرُوعِ مِنْ أَذْكَارِهَا. ثُمَّ مَدَحَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ أَيِ: الْأَحِقَّاءُ بِأَنْ يُسَمَّوْا بِهَذَا الِاسْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ الْمَوْرُوثَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ وَهُوَ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، كَمَا صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَهُوَ الْوَارِثُ الَّذِي يَرِثُ مِنَ الْجَنَّةِ ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ لِاسْتِحْقَاقِهِمُ الْفِرْدَوْسَ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مِنَ الْكُفَّارِ مَنَازِلَهُمْ حَيْثُ فَرَّقُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ. وَلَفْظُ الْفِرْدَوْسِ لُغَةٌ رُومِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ، وَقِيلَ: فَارِسِيَّةٌ، وَقِيلَ: حَبَشِيَّةٌ، وَقِيلَ: هِيَ عَرَبِيَّةٌ، وَجُمْلَةُ هُمْ فِيها خالِدُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا، وَمَعْنَى الْخُلُودِ أَنَّهُمْ يَدُومُونَ فِيهَا لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا، وَتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ مَعَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْفِرْدَوْسِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْجَنَّةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْعُقَيْلِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «كَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمًا فَمَكَثْنَا سَاعَةً، فَسُرِّيَ عَنْهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى خَتَمَ الْعَشْرَ» وَفِي إِسْنَادِهِ يُونُسُ بْنُ سُلَيْمٍ الْأَيْلِيُّ. قَالَ النَّسَائِيُّ: لَا نَعْرِفُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ إِلَّا يُونُسَ بْنَ سُلَيْمٍ، وَيُونُسُ لَا نَعْرِفُهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ قَالَ: قُلْنَا لِعَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَتْ: تقرأ سورة المؤمنون؟ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فقرأ حَتَّى بَلَغَ الْعَشْرَ، فَقَالَتْ: هَكَذَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَتِ:
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَزَادَ: فَأَمَرَهُ بِالْخُشُوعِ فَرَمَى بِبَصَرِهِ نَحْوَ مَسْجِدِهِ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ أَيْضًا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ نَظَرَ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَمِينًا وَشِمَالًا، فَنَزَلَتِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فَحَنَى رَأْسَهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ مُرْسَلًا هَكَذَا. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَتِ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حاتم عن
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute