مُعْرِضُونَ، لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَفِي هَذَا التَّرْكِيبِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ دَعْوَةَ نَبِيِّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لَيْسَتْ مَشُوبَةً بِأَطْمَاعِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً و «أم» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْمَعْنَى: أَمْ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَسْأَلُهُمْ خرجا تأخذه على الرِّسَالَةِ، وَالْخَرْجُ:
الْأَجْرُ وَالْجَعْلُ، فَتَرَكُوا الْإِيمَانَ بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ لَمْ تَسْأَلْهُمْ ذَلِكَ وَلَا طَلَبْتَهُ مِنْهُمْ فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أَيْ: فَرِزْقُ رَبِّكَ الَّذِي يَرْزُقُكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَجْرُهُ الَّذِي يُعْطِيكَهُ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا ذُكِرَ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «أَمْ تسألهم خراجا» وقرأ الباقون «خرجا» ، وكلّهم قرءوا فَخَراجُ إِلَّا ابْنَ عَامِرٍ وَأَبَا حَيْوَةَ فَإِنَّهُمَا قَرَآ: «فَخَرَجَ» بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَالْخَرْجُ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُقَابِلًا لِلدَّخْلِ، يُقَالُ لِكُلِّ مَا تُخْرِجُهُ إِلَى غَيْرِكَ خَرْجًا، وَالْخَرَاجُ غَالِبٌ فِي الضَّرِيبَةِ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْخَرْجُ الْمَصْدَرُ، وَالْخَرَاجُ الِاسْمُ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ، فَقَالَ: الْخَرَاجُ: مَا لَزِمَكَ، وَالْخَرْجُ: مَا تَبَرَّعْتَ بِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْخَرْجُ مِنَ الرِّقَابِ، وَالْخَرَاجُ مِنَ الْأَرْضِ. وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ كون خراجه سبحانه خير. ثُمَّ لَمَّا أَثْبَتَ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِقَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ، وَنَفَى عَنْهُ أَضْدَادَ ذَلِكَ، قَالَ: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: إِلَى طَرِيقٍ وَاضِحَةٍ تَشْهَدُ الْعُقُولُ بِأَنَّهَا مُسْتَقِيمَةٌ غَيْرُ مُعْوَجَّةٍ، وَالصِّرَاطُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقُ، فَسُمِّيَ الدِّينُ طَرِيقًا لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَيْهِ. ثُمَّ وَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ يُقَالُ: نَكَبَ عَنِ الطَّرِيقِ يَنْكُبُ نُكُوبًا إِذَا عَدَلَ عَنْهُ وَمَالَ إِلَى غَيْرِهِ، وَالنُّكُوبُ وَالنَّكْبُ: الْعُدُولُ وَالْمَيْلُ، وَمِنْهُ النَّكْبَاءُ لِلرِّيحِ بَيْنَ رِيحَيْنِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعُدُولِهَا عَنِ المهابّ، و «عن الصِّرَاطِ» مُتَعَلِّقٌ بَنَاكِبُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَوْصُوفِينَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ عَنْ ذَلِكَ الصِّرَاطِ أَوْ جِنْسِ الصِّرَاطِ لَعَادِلُونَ عَنْهُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ بِحَالٍ، فَقَالَ: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ أَيْ: مِنْ قَحْطٍ وَجَدْبٍ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ أَيْ: لَتَمَادَوْا فِي طُغْيَانِهِمْ وَضَلَالِهِمْ يَعْمَهُونَ يَتَرَدَّدُونَ وَيَتَذَبْذَبُونَ وَيَخْبِطُونَ، وَأَصْلُ اللَّجَاجِ: التَّمَادِي فِي الْعِنَادِ، وَمِنْهُ اللَّجَّةُ بِالْفَتْحِ لِتَرَدُّدِ الصَّوْتِ، وَلُجَّةُ الْبَحْرِ: تَرَدُّدُ أَمْوَاجِهِ، وَلُجَّةُ اللَّيْلِ: تَرَدُّدُ ظلامه. وقيل: المعنى: رَدَدْنَاهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَلَمْ نُدْخِلْهُمُ النَّارَ وَامْتَحَنَّاهُمْ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا. وَالْعَذَابُ: قِيلَ هُوَ الْجُوعُ الَّذِي أَصَابَهُمْ فِي سِنِي الْقَحْطِ، وقيل: المرض، وقيل: القتل يَوْمَ بَدْرٍ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: الْمَوْتُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ أَصَابَهُ الْعَذَابُ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ أَيْ: مَا خَضَعُوا وَلَا تَذَلَّلُوا، بَلْ أَقَامُوا عَلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى اللَّهِ وَالِانْهِمَاكِ فِي مَعَاصِيهِ وَما يَتَضَرَّعُونَ أَيْ: وَمَا يَخْشَعُونَ لِلَّهِ فِي الشَّدَائِدِ عِنْدَ إِصَابَتِهَا لَهُمْ، وَلَا يَدْعُونَهُ لِرَفْعِ ذَلِكَ حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ قِيلَ: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: قَتْلُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ، وَقِيلَ: الْقَحْطُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَقِيلَ: فَتْحُ مَكَّةَ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أَيْ: مُتَحَيِّرُونَ، لَا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ، والإبلاس: التَّحَيُّرُ وَالْإِيَاسُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ مُبْلَسُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute