للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ الْمَوَالِيَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُكَاتَبِينَ، فَقَالَ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ لِلْمَالِكِينَ بِإِعَانَةِ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ، إما بأن يعطوهم شيئا من المال، أو بأن يَحُطُّوا عَنْهُمْ مِمَّا كُوتِبُوا عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ عَدَمُ تَقْدِيرِ ذَلِكَ بِمِقْدَارٍ، وَقِيلَ: الثُّلُثُ، وَقِيلَ: الرُّبُعُ، وَقِيلَ:

الْعُشْرُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِ الْمَوَالِي بِهَذَا الْأَمْرِ هُوَ كَوْنُ الْكَلَامِ فِيهِمْ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ مَعَهُمْ فَإِنَّهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِالْكِتَابَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقول: وَآتُوهُمْ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ:

إِنَّ الْخِطَابَ لِلْوُلَاةِ بِأَنْ يُعْطُوا الْمُكَاتَبِينَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ حَظَّهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَفِي الرِّقابِ «١» ، وَلِلْمُكَاتَبِ أَحْكَامٌ مَعْرُوفَةٌ إِذَا وَفَّى بِبَعْضِ مَالِ الْكِتَابَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرْشَدَ الْمَوَالِيَ إِلَى نِكَاحِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْمَمَالِيكِ، نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِكْرَاهِ إِمَائِهِمْ عَلَى الزِّنَا فَقَالَ: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ وَالْمُرَادُ بِالْفَتَيَاتِ هُنَا: الْإِمَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْفَتَى وَالْفَتَاةُ قَدْ يُطْلَقَانِ عَلَى الْأَحْرَارِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.

وَالْبِغَاءُ: الزِّنَا، مَصْدَرُ بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً إِذَا زَنَتْ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِزِنَا النِّسَاءِ، فَلَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا زَنَا إِنَّهُ بَغِيٌّ، وَشَرَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَتِهِمْ لِلتَّحَصُّنِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ تُرِدِ التَّحَصُّنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهَا مُكْرَهَةٌ عَلَى الزِّنَا، وَالْمُرَادُ بِالتَّحَصُّنِ هُنَا: التَّعَفُّفُ وَالتَّزَوُّجُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَيْدَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَيَامَى. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ، وَإِمَائِكُمْ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا. وَقِيلَ: هَذَا الشَّرْطُ مُلْغًى. وَقِيلَ:

إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُكْرِهُونَهُنَّ وَهُنَّ يُرِدْنَ التَّعَفُّفَ، وَلَيْسَ لِتَخَصُّصِ النَّهْيِ بِصُورَةِ إِرَادَتِهِنَّ التَّعَفُّفَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ عَدَمِ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ الْأَمَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مُرِيدَةٍ لِلْحَلَالِ وَلَا لِلْحَرَامِ، كَمَا فِيمَنْ لَا رَغْبَةَ لها في النكاح كالصغيرة، فَتُوصَفُ بِأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ عَلَى الزِّنَا، مَعَ عَدَمِ إِرَادَتِهَا لِلتَّحَصُّنِ، فَلَا يَتِمُّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَصُّنِ هُنَا مُجَرَّدُ التَّعَفُّفِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَى مَنْ كَانَتْ تُرِيدُ الزَّوَاجَ أَنَّهَا مُرِيدَةٌ لِلتَّحَصُّنِ وهو بعيد، فقد قال الحبر ابن عباس: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَصُّنِ: التَّعَفُّفُ وَالتَّزَوُّجُ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُوَ مَا تَكْسِبُهُ الْأَمَةُ بِفَرْجِهَا، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا خَارِجٌ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْعَرَضَ هُوَ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى إِكْرَاهِ الْإِمَاءِ عَلَى الْبِغَاءِ فِي الْغَالِبِ، لِأَنَّ إِكْرَاهَ الرَّجُلِ لِأَمَتِهِ عَلَى الْبِغَاءِ لَا لِفَائِدَةٍ لَهُ أَصْلًا، لَا يَصْدُرُ مِثْلُهُ عَنِ الْعُقَلَاءِ، فَلَا يَدُلُّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكْرِهَهَا، إِذَا لَمْ يَكُنْ مُبْتَغِيًا بِإِكْرَاهِهَا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لِلْإِكْرَاهِ هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَادَتَهُمْ كَانَتْ كَذَلِكَ، لَا أَنَّهُ مَدَارٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِكْرَاهِ لَهُنَّ، وَهَذَا يُلَاقِي المعنى الأوّل ولا يخالفه وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ هَذَا مُقَرِّرٌ لِمَا قَبْلَهُ وَمُؤَكِّدٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ عُقُوبَةَ الْإِكْرَاهِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُكْرِهِينَ لَا إِلَى الْمُكْرَهَاتِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعِيدُ بْنُ جبير:


(١) . البقرة: ١٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>