للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

فَدَمْعُهُمَا وَدَقٌّ وَسَحٌّ وَدَيْمَةٌ ... وَسَكَبٌ وَتَوْكَافٌ وَتَنْهَمِلَانِ

يُقَالُ: وَدَقَتِ السَّحَابُ فَهِيَ وادقة الْمَطَرُ يَدِقُ، أَيْ: قَطَرَ يَقْطُرُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْوَدْقَ الْبَرْقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَثَرْنَ عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ مِنْهَا ... خُرُوجَ الْوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ

وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، وَمَعْنَى مِنْ خِلالِهِ مِنْ فُتُوقِهِ الَّتِي هِيَ مَخَارِجُ الْقَطْرِ، وَجُمْلَةُ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ هُنَا هِيَ الْبَصَرِيَّةُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وابن مسعود والضحاك وَأَبُو الْعَالِيَةِ «مَنْ خَلَلِهِ» عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي خِلَالِ، هَلْ هُوَ مُفْرَدٌ كَحِجَابٍ؟ أَوْ جَمْعٌ كَجِبَالٍ؟ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِنْ سَمَاءٍ: مِنْ عَالٍ، لِأَنَّ السَّمَاءَ قَدْ تطلق على جهة العلوّ، ومعنى من جبال: من قطع عظام تشبه الجبال، ولفظ فيها في محل نصب على الحال، ومِنْ في مِنْ بَرَدٍ لِلتَّبْعِيضِ، وَهُوَ مَفْعُولُ يُنَزِّلُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يُنَزِّلُ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ بَرَدًا. وَقِيلَ: إِنَّ مِنْ فِي مِنْ بَرَدٍ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا بَرَدٌ. وَقِيلَ:

إِنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا مَحْذُوفًا، أَيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السماء قدر جبال، أَوْ مِثْلَ جِبَالٍ مِنْ بَرَدٍ إِلَى الْأَرْضِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ مَنْ فِي مِنْ جِبَالٍ وفي بَرَدٍ زَائِدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْجِبَالُ وَالْبَرَدُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ بَرَدًا يَكُونُ كَالْجِبَالِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مِنْ فِي مِنَ السماء لابتداء الغاية بلا خلاف ومِنْ فِي مِنْ جِبَالٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَتَكُونُ هِيَ وَمَجْرُورِهَا بَدَلًا مِنَ الْأُولَى بِإِعَادَةِ الْخَافِضِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ.

الثَّانِي: أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ فَتَكُونُ عَلَى هَذَا هِيَ وَمَجْرُورِهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولُ الْإِنْزَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيُنَزِّلُ بَعْضَ جِبَالٍ: الثَّالِثُ: أَنَّهَا زَائِدَةٌ، أَيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ جِبَالًا. وَأَمَّا مِنْ فِي مِنْ بَرَدٍ فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:

الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ بَعْضَ جِبَالٍ الَّتِي هِيَ الْبَرَدُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ بَرَدٌ فِيهَا كَمَا تَقُولُ: هَذَا خَاتَمٌ فِي يَدِي مِنْ حَدِيدٍ، أَيْ: خَاتَمُ حَدِيدٍ فِي يَدِي، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ هَذَا خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ وَخَاتَمُ حَدِيدٍ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ بَرَدٍ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةً لِجِبَالٍ كَمَا كَانَ مِنْ حَدِيدٍ صِفَةً لِخَاتَمٍ وَيَكُونُ مَفْعُولُ يُنَزِّلُ مِنْ جِبَالٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْجِبَالِ بَرَدًا أَنْ يَكُونَ الْمُنَزَّلُ بَرَدًا. وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: شَيْئًا مِنْ جِبَالٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَاكْتَفَى بِالصِّفَةِ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُصِيبُ بِمَا يُنَزِّلُ مِنَ الْبَرَدِ مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ مِنْهُمْ، أَوْ يُصِيبُ بِهِ مَالَ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَالِ مَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَنْ مَثْلِ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ السَّنَا: الضَّوْءُ، أَيْ: يَكَادُ ضَوْءُ الْبَرْقِ الَّذِي فِي السَّحَابِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ مِنْ شِدَّةِ بَرِيقِهِ، وَزِيَادَةِ لَمَعَانِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ قَالَ الشَّمَّاخُ:

وَمَا كَادَتْ إِذَا رَفَعَتْ سَنَاهَا ... لِيُبْصِرَ ضَوْءَهَا إِلَّا الْبَصِيرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>