للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجواب لولا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ لَمْ يُعَذِّبْكُمْ، وَيَكُونُ مَعْنَى فَقَدْ كَذَّبْتُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بِمَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بِالتَّوْحِيدِ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أَيْ: فَسَوْفَ يَكُونُ جَزَاءُ التَّكْذِيبِ لَازِمًا لَكُمْ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاللِّزَامِ هُنَا:

مَا لَزِمَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لِزَامًا فَيْصَلًا، أَيْ: فَسَوْفَ يَكُونُ فَيْصَلًا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَسَوْفَ يَكُونُ تَكْذِيبُكُمْ لِزَامًا يَلْزَمُكُمْ فَلَا تُعْطَوْنَ التَّوْبَةَ، وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَى كَسْرِ اللَّامِ مِنْ لِزَامًا، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِصَخْرٍ:

فَإِمَّا ينجو مِنْ خَسْفِ أَرْضٍ ... فَقَدْ لَقِيَا حُتُوفَهُمَا لِزَامًا

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ لِزَامًا: عَذَابًا دَائِمًا، وَهَلَاكًا مُفْنِيًا، يُلْحِقُ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ:

فَفَاجَأَهُ بِعَادِيَةٍ لِزَامٍ ... كَمَا يَتَفَجَّرُ الْحَوْضُ اللَّفِيفُ

يعني باللزام: يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَبِاللَّفِيفِ: الْمُتَسَاقِطَ مِنَ الْحِجَارَةِ الْمُنْهَدِمَةِ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا السِّمَاكِ يَقْرَأُ «لِزَامًا» بِفَتْحِ اللَّامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ يَكُونُ مَصْدَرَ لَزِمَ، وَالْكَسْرُ أَوْلَى.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ؟ قَالَ:

«أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ» . وَأَخْرَجَا وَغَيْرُهُمَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَدْ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً، فَنَزَلَتْ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ الْآيَةَ، وَنَزَلَتْ قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «١» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي قَوْلِهِ: يَلْقَ أَثاماً قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الْآيَةَ. اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَشْرَكَ وقتل وزنا، فأنزل الله:

يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ، يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَصَابُوا هَذَا فِي الشِّرْكِ، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ فَأَبْدَلَهُمُ اللَّهُ بِالْكُفْرِ الْإِسْلَامَ، وَبِالْمَعْصِيَةِ الطَّاعَةَ، وَبِالْإِنْكَارِ الْمَعْرِفَةَ، وَبِالْجَهَالَةِ الْعِلْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَرَأْنَاهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِنِينَ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ثُمَّ نَزَلَتْ إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرِحَ بِشَيْءٍ قَطُّ فَرَحَهُ بِهَا، وَفَرَحَهُ ب إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «٢» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: هم المؤمنون


(١) . الزمر: ٥٣.
(٢) . الفتح: ١.

<<  <  ج: ص:  >  >>