فِيمَا يَجْرِي وَمَا لَا يَجْرِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: «طَا سِينَ مِيمُ» بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الْمِيمِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا مَعْدِي كَرْبُ.
وَقَرَأَ عِيسَى وَيُرْوَى عَنْ نَافِعٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى الْبِنَاءِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «ط س م» هَكَذَا حُرُوفًا مُقَطَّعَةً فَيُوقَفُ عَلَى كُلِّ حَرْفٍ وَقْفَةً يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ إِنْ كَانَ اسْمًا لِلسُّورَةِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ:
اذْكُرْ أَوِ اقْرَأْ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَسْرُودًا عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِلَى السُّورَةِ، وَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا وَمَا بَعْدَهَا خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ إِنْ جَعَلْنَا طسم مُبْتَدَأً، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْ طسم، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُنَا: الْقُرْآنُ، وَالْمُبِينُ: الْمُبِينُ الْمُظْهِرُ، أَوِ الْبَيِّنُ الظَّاهِرُ إِنْ كَانَ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَيْ: قَاتِلٌ نَفْسَكَ وَمُهْلِكُهَا أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أَيْ: لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَالْبَخْعُ فِي الْأَصْلِ: أَنْ يُبْلَغَ بِالذَّبْحِ النُّخَاعُ، بِالنُّونِ، قَامُوسٌ، وَهُوَ عِرْقٌ فِي الْقَفَا، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ هَذَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ «بَاخِعُ نَفْسِكَ» بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْقَطْعِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّهَا جَزَاءٌ، قَالَ النحاس: وإنما يقال: إن مكسورة لأنها جزاء، هكذا المتعارف وَالْقَوْلُ فِي هَذَا مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ فِي كِتَابِهِ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبِ، مَفْعُولٍ لِأَجْلِهِ، وَالْمَعْنَى:
لَعَلَّكَ قَاتِلٌ نَفْسَكَ لِتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ، شَدِيدَ الْأَسَفِ لِمَا يَرَاهُ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ: وَجُمْلَةُ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا سَبَقَ مِنَ التَّسْلِيَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ نَشَأْ نَنْزِلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً تُلْجِئُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنْ قَدْ سَبَقَ الْقَضَاءُ بِأَنَّا لَا نَنْزِلُ ذَلِكَ، وَمَعْنَى فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أَنَّهُمْ صَارُوا مُنْقَادِينَ لَهَا، أَيْ: فَتَظَلُّ أَعْنَاقُهُمْ إِلَخْ، قِيلَ: وَأَصْلُهُ فَظَلُّوا لَهَا خَاضِعِينَ، فَأُقْحِمَتِ الْأَعْنَاقُ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَالتَّصْوِيرِ، لِأَنَّ الْأَعْنَاقَ مَوْضِعُ الْخُضُوعِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمَّا وُضِعَتِ الْأَعْنَاقُ بِصِفَاتِ الْعُقَلَاءِ أُجْرِيَتْ مَجْرَاهُمْ، وَوُصِفَتْ بِمَا يُوصَفُونَ بِهِ. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: خاضعين وخاضعة هُنَا سَوَاءٌ، وَاخْتَارَهُ الْمُبَرِّدُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا إِذَا ذَلَّتْ رِقَابُهُمْ ذُلُّوا، فَالْإِخْبَارُ عَنِ الرِّقَابِ إِخْبَارٌ عَنْ أَصْحَابِهَا، وَيَسُوغُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُتْرَكَ الْخَبَرُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَيُخْبَرَ عَنِ الثَّانِي، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
طُولَ اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرْضِي
فَأَخْبَرَ عَنِ اللَّيَالِي وَتَرَكَ الطُّولَ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
أَرَى مَرَّ السِّنِينِ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلَالِ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْكِسَائِيُّ: إِنَّ الْمَعْنَى خَاضِعِيهَا هُمْ، وَضَعَّفَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْنَاقُهُمْ: كُبَرَاؤُهُمْ.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ جَاءَنِي عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ: أَيْ رُؤَسَاءٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ:
أَعْنَاقُهُمْ: جَمَاعَاتُهُمْ، يُقَالُ جَاءَنِي عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ: أَيْ جَمَاعَةٌ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute