الْقَائِمَانِ بِالدَّعْوَةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَفِيهِ تَبْكِيتٌ لِفِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَبٍّ، وَأَنَّ الرَّبَّ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ هَذَا، فَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَرَأَى سُجُودَهُمْ لِلَّهِ قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أَيْ: بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنِّي، ثُمَّ قَالَ مُغَالِطًا لِلسَّحَرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمُوهِمًا لِلنَّاسِ أَنَّ فِعْلَ مُوسَى سِحْرٌ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ السِّحْرِ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وَإِنَّمَا اعْتَرَفَ لَهُ بِكَوْنِهِ كَبِيرُهُمْ، مَعَ كَوْنِهِ لَا يُحِبُّ الِاعْتِرَافَ بِشَيْءٍ يَرْتَفِعُ بِهِ شَأْنُ مُوسَى، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ، أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى أَبْهَرُ مِمَّا جَاءَ بِهِ السَّحَرَةُ، فَأَرَادَ أَنْ يُشَكِّكَ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي شَاهَدْتُمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَاقَ عَلَى مَا فَعَلَهُ هَؤُلَاءِ السَّحَرَةُ، فَهُوَ فِعْلُ كَبِيرِهِمْ، وَمَنْ هُوَ أُسْتَاذُهُمُ الَّذِي أَخَذُوا عَنْهُ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ، فَلَا تَظُنُّوا أَنَّهُ فِعْلٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّهُ مِنْ فِعْلِ الرَّبِّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ مُوسَى، ثُمَّ تَوَعَّدَ أُولَئِكَ السَّحَرَةَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ لِمَا قَهَرَتْهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ، فَقَالَ: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَجْمَلَ التَّهْدِيدَ أَوَّلًا: لِلتَّهْوِيلِ، ثُمَّ فَصَّلَهُ فَقَالَ: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أَيْ: لَا ضَرَرَ عَلَيْنَا فِيمَا يَلْحَقُنَا مِنْ عِقَابِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَزُولُ، وَنَنْقَلِبُ بَعْدَهُ إِلَى رَبِّنَا، فَيُعْطِينَا مِنَ النَّعِيمِ الدَّائِمِ مَا لَا يُحَدُّ، وَلَا يُوصَفُ. قَالَ الْهَرَوِيُّ:
لَا ضَيْرَ وَلَا ضَرَرَ وَلَا ضُرَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنْشَدَ أَبُو عبيدة:
فإنّك لا يضورك بَعْدَ حَوْلٍ ... أَظَبْيٌ كَانَ أُمَّكَ أَمْ حِمَارُ «١»
قال الجوهري: ضاره يضوره ضَيْرًا وَضُورًا: أَيْ ضَرَّهُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: لَا يَنْفَعُنِي ذَلِكَ وَلَا يَضُورُنِي إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا ثُمَّ عَلَّلُوا هَذَا بِقَوْلِهِمْ: أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْبِ أَنْ، أَيْ: لِأَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ كَسْرَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مُجَازَاةً، وَمَعْنَى أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَوَّلَ مُؤْمِنِي زَمَانِهِمْ، وَأَنْكَرَهُ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ: قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ آمَنُ مَعَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَهُمُ الشِّرْذِمَةُ الْقَلِيلُونَ الَّذِينَ عَنَاهُمْ فِرْعَوْنُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ يَقُولُ: مُبِينٌ:
لَهُ خَلْقُ حَيَّةٍ وَنَزَعَ يَدَهُ يَقُولُ: وَأَخْرَجَ مُوسَى يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ تَلْمَعُ لِلنَّاظِرِينَ لِمَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَرَاهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ قَالَ:
كَانُوا بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. قَالَ: وَيُقَالُ بَلَغَ ذَنَبُ الْحَيَّةِ مِنْ وَرَاءِ الْبُحَيْرَةِ يَوْمَئِذٍ. قَالَ: وَهَرَبُوا وَأَسْلَمُوا فِرْعَوْنَ، وَهَمَّتْ بِهِ، فَقَالَ: خُذْهَا يَا مُوسَى، وَكَانَ مِمَّا بَلَى النَّاسَ بِهِ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَضَعُ عَلَى الْأَرْضِ شَيْئًا، أَيْ: يُوهِمُهُمْ أَنَّهُ لَا يُحْدِثُ فَأَحْدَثَ يَوْمَئِذٍ تَحْتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا ضَيْرَ قَالَ: يَقُولُونَ لَا يُضِيرُنَا الَّذِي تَقُولُ، وَإِنْ صَنَعْتَ بِنَا وَصَلَبْتَنَا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ يَقُولُونَ: إِنَّا إلى ربنا راجعون، وهو
(١) . البيت لخداش بن زهير، ومعناه: لا تبالي بعد قيامك بنفسك واستغنائك عن أبويك من انتسبت إليه من شريف أو وضيع، وضرب المثل بالظبي أو الحمار.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute