وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلِقِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ وَجْهٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ فِيهَا انْقِطَاعُ الْخَبَرِ عَنْ أَمْرِ سَبَأٍ ثُمَّ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى ذِكْرِهِمْ، وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ خَبَرٌ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا انْقِطَاعَ فِي وَسَطِهِ، وَكَذَا قَالَ النَّحَّاسُ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ جُمْلَةُ أَلَّا يَسْجُدُوا مُعْتَرِضَةً مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ، أَوْ مِنْ كَلَامِ سُلَيْمَانَ، أَوْ من كلام الله سبحانه. وفي قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «هَلْ لَا تَسْجُدُوا» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «أَلَّا تَسْجُدُوا» بِالْفَوْقِيَّةِ أَيْضًا الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ:
يُظْهِرُ مَا هُوَ مَخْبُوءٌ وَمَخْفِيٌّ فِيهِمَا، يُقَالُ: خَبَأْتُ الشَّيْءَ أَخْبَؤُهُ خَبْأً، وَالْخَبْءُ مَا خَبَّأْتَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْخَبْءَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْقَطْرِ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: خَبْءُ الْأَرْضِ كُنُوزُهَا وَنَبَاتُهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخَبْءُ السِّرُّ. قَالَ النَّحَّاسُ، أي: ما غاب في السموات وَالْأَرْضِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «الْخَبَ» بِفَتْحِ الْبَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ تَخْفِيفًا، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَعِكْرِمَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ «الْخَبَا» بِالْأَلْفِ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ سِيبَوَيْهِ حَكَى عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ الْأَلِفَ تُبَدَّلُ مِنَ الْهَمْزَةِ إِذَا كَانَ قَبْلَهَا سَاكِنٌ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ الله «يخرج الخبء من السموات والأرض» . قال الفراء: ومن وفي يَتَعَاقَبَانِ، وَالْمَوْصُولُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ نَعْتًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ بَدَلًا مِنْهُ، أو بيانا له، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَدْحِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَجُمْلَةُ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى يُخْرِجُ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّحْتِيَّةِ فِي الْفِعْلَيْنِ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرَيُّ وعيسى بن عمر وحفص وَالْكِسَائِيُّ بِالْفَوْقِيَّةِ لِلْخِطَابِ، أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَلِكَوْنِ الضَّمَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ ضَمَائِرَ غَيْبَةٍ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَلِكَوْنِ قِرَاءَةِ الزُّهْرِيِّ وَالْكِسَائِيِّ فِيهَا الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ وَالْخِطَابُ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَهَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ الْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى:
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُخْرِجُ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ مِنَ الْخَفَاءِ بِعِلْمِهِ لَهُ كَمَا يُخْرِجُ مَا خَفِيَ فِي السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ بَعْدَ مَا وَصَفَ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَجَلِيلِ سُلْطَانِهِ وَوُجُوبِ تَوْحِيدِهِ وَتَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ قَالَ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ الْعَظِيمِ بِالْجَرِّ نَعَتًا لِلْعَرْشِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالرَّفْعِ نَعَتًا لِلرَّبِّ، وَخُصَّ الْعَرْشُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمَرْفُوعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْعِمْ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ حَمْدُهُ أَفْضَلُ مِنْ نِعْمَتِهِ لَوْ كُنْتَ لَا تَعْرِفُ ذَلِكَ إِلَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَفْضَلُ مِمَّا أُعْطِي دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ.
أَقُولُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا فَهِمَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا حَمِدَا اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا فَضَّلَهُمَا بِهِ مِنَ النِّعَمِ، فَمِنْ أَيْنَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَمْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ نِعْمَتِهِ؟ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ قَالَ: وِرْثُهُ نَبُّوَّتُهُ وَمُلْكُهُ وَعِلْمُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِي قَالَ: «خَرَجَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ، فمرّ على
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute