أَمْوَالَهَا، وَفَرَّقُوا شَمْلَ أَهْلِهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً أَيْ: أَهَانُوا أَشْرَافَهَا، وَحَطُّوا مَرَاتِبَهُمْ، فَصَارُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَذِلَّةً وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَتِمَّ لَهُمُ الْمُلْكُ، وَتُسْتَحْكَمَ لَهُمُ الْوَطْأَةُ وَتَتَقَرَّرُ لَهُمْ فِي قُلُوبِهِمُ الْمَهَابَةُ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: إِذَا دَخَلُوهَا عَنْوَةً عَنْ قِتَالٍ وَغَلَبَةٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهَا هَذَا، تَحْذِيرُ قَوْمِهَا مِنْ مَسِيرِ سُلَيْمَانَ إِلَيْهِمْ وَدُخُولِهِ بِلَادَهُمْ، وَقَدْ صَدَّقَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا قَالَتْ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ يَفْعَلُونَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَقْفٌ تَامٌّ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهَا: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ وَقِيلَ: هَذِهِ الجملة من تمام كلامها، فتكون من جُمْلَةَ مَقُولِ قَوْلِهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. ثُمَّ لَمَّا قَدَّمَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ، وَبَيَّنَتْ لَهُمْ مَا فِي دُخُولِ الْمُلُوكِ إِلَى أَرْضِهِمْ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، أَوْضَحَتْ لَهُمْ وَجْهَ الرَّأْيِ عِنْدَهَا، وَصَرَّحَتْ لَهُمْ بِصَوَابِهِ فَقَالَتْ: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ أَيْ: إِنِّي أُجَرِّبُ هَذَا الرَّجُلَ بِإِرْسَالِ رُسُلِي إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ كَانَ مَلِكًا أَرْضَيْنَاهُ بِذَلِكَ، وَكُفِينَا أَمْرَهُ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يُرْضِهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ غَايَةَ مَطْلَبِهِ وَمُنْتَهَى أَرَبِهِ هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى الدِّينِ، فَلَا يُنْجِينَا مِنْهُ إِلَّا إِجَابَتُهُ وَمُتَابَعَتُهُ وَالتَّدَيُّنُ بِدِينِهِ وَسُلُوكُ طَرِيقَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَتْ:
فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مرسلة، وبم: مُتَعَلِّقٌ بِيَرْجِعُ، وَالْمَعْنَى: إِنِّي نَاظِرَةٌ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ رُسُلِيَ الْمُرْسَلُونَ بِالْهَدِيَّةِ، مِنْ قَبُولٍ أَوْ رَدٍّ فَعَامِلَةٌ بِمَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ، وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْهَدِيَّةِ، وَسَيَأْتِي فِي آخر البحث بين مَا هُوَ أَقْرَبُ مَا قِيلَ إِلَى الصَّوَابِ وَالصِّحَّةِ فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ أَيْ:
فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُهَا الْمُرْسَلُ بِالْهَدِيَّةِ سُلَيْمَانَ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْمُضْمَرِ الْجِنْسُ، فَلَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ جَمَاعَةً كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهَا: «بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ» وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ «فَلَمَّا جَاءُوا سُلَيْمَانَ» أَيِ: الرُّسُلُ، وَجُمْلَةُ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ مُسْتَأْنَفَةٌ، جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، والاستفهام للإنكار، أَيْ: قَالَ مُنْكِرًا لِإِمْدَادِهِمْ لَهُ بِالْمَالِ، مَعَ عُلُوِّ سُلْطَانِهِ، وَكَثْرَةِ مَالِهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِإِدْغَامِ نُونِ الْإِعْرَابِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ، وَالْبَاقُونَ بِنُونَيْنِ مِنْ غَيْرِ إِدْغَامٍ، وَأَمَّا الْيَاءُ فَإِنَّ نَافِعًا وَأَبَا عَمْرٍو وَحَمْزَةَ يُثْبِتُونَهَا وَصْلًا، وَيَحْذِفُونَهَا وَقْفًا، وَابْنُ كَثِيرٍ يُثْبِتُهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَالْبَاقُونَ يَحْذِفُونَهَا فِي الْحَالَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ يَقْرَأُ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أَيْ: مَا آتَانِي مِنَ النُّبُوَّةِ، وَالْمُلْكِ الْعَظِيمِ، وَالْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ مِنَ المال الذي هذه الهدية من جملته. قرأ أبو عمرو ونافع وحفص «آتَانِيَ اللَّهُ» بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ، وَحَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. ثُمَّ إِنَّهُ أَضْرَبَ عَنِ الْإِنْكَارِ الْمُتَقَدِّمِ فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ تَوْبِيخًا لَهُمْ بِفَرَحِهِمْ بِهَذِهِ الْهَدِيَّةِ فَرَحَ فَخْرٍ وَخُيَلَاءَ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَفْرَحُ بِهَا، وَلَيْسَتِ الدُّنْيَا مِنْ حَاجَتِي، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَعْطَانِي مِنْهَا، مَا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ أَكْرَمَنِي بِالنُّبُوَّةِ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْإِضْرَابِ مِنْ سُلَيْمَانَ بَيَانُ السَّبَبِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى الْهَدِيَّةِ مَعَ الْإِزْرَاءِ بِهِمْ، وَالْحَطِّ عَلَيْهِمْ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها أَيْ:
قَالَ سُلَيْمَانُ لِلرَّسُولِ: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ: أَيْ: إِلَى بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا، وَخَاطَبَ الْمُفْرَدَ هَاهُنَا بَعْدَ خِطَابِهِ لِلْجَمَاعَةِ فِيمَا قَبْلُ، إِمَّا لِأَنَّ الَّذِي سَيَرْجِعُ هُوَ الرَّسُولُ فَقَطْ، أَوْ خَصَّ أَمِيرَ الرُّسُلِ بِالْخِطَابِ هُنَا، وَخَاطَبَهُمْ مَعَهُ فِيمَا سَبَقَ افْتِنَانًا فِي الْكَلَامِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ «ارْجِعُوا» وَقِيلَ: إِنَّ الضمير يرجع إلى الهدهد، واللام في
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute