للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «١» ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَقُولُهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ بِقَوْلِهِ: فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ أَيْ:

حُجَّتَكُمْ وَدَلِيلَكُمْ بِأَنَّ مَعِي شُرَكَاءَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اعْتَرَفُوا، وَخَرِسُوا عَنْ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ، وَلِذَا قَالَ: فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ: غَابَ عَنْهُمْ وَبَطَلَ، وَذَهَبَ مَا كَانُوا يَخْتَلِقُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ فِي الدُّنْيَا بِأَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ يَسْتَحِقُّونَ الْعِبَادَةَ. ثُمَّ عَقَّبَ سُبْحَانَهُ حَدِيثَ أَهْلِ الضَّلَالِ بِقِصَّةِ قَارُونَ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ بَدِيعِ الْقُدْرَةِ، وَعَجِيبِ الصُّنْعِ فَقَالَ: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى قَارُونُ عَلَى وَزْنِ فَاعُولِ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُمْتَنِعٌ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ مُشْتَقٍّ مِنْ قَرَنْتُ.

قَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْ كَانَ قَارُونُ مِنْ قَرَنْتُ الشَّيْءَ لَانْصَرَفَ. قَالَ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ ابْنُ عَمِّ مُوسَى، وَهُوَ قَارُونُ بْنُ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، وَمُوسَى هُوَ ابْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:

كَانَ عَمَّ مُوسَى لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَجَعَلَهُ أَخًا لِعِمْرَانَ، وَهُمَا ابْنَا قَاهِثَ. وَقِيلَ: هُوَ ابْنُ خَالَةِ مُوسَى، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَقْرَأُ لِلتَّوْرَاةِ مِنْهُ، فَنَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ، وَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ مُوسَى، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَبَغى عَلَيْهِمْ أَيْ: جَاوَزَ الْحَدَّ في التجبر، والتكبر عَلَيْهِمْ، وَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ مُوسَى، وَكَفَرَ بِاللَّهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ:

بَغْيُهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: اسْتِخْفَافُهُ بِهِمْ لِكَثْرَةِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَغْيُهُ بِنِسْبَتِهِ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْمَالِ إِلَى نَفْسِهِ، لِعِلْمِهِ وَحِيلَتِهِ. وَقِيلَ: كَانَ عَامِلًا لِفِرْعَوْنَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ وَظَلَمَهُمْ، وَقِيلَ: كَانَ بَغْيُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنَاسِبُ مَعْنَى الْآيَةِ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ جَمْعُ كَنْزٍ: وَهُوَ الْمَالُ الْمُدَّخَرُ. قَالَ عَطَاءٌ: أَصَابَ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ يُوسُفَ، وَقِيلَ: كَانَ يَعْمَلُ الْكِيمْيَاءَ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ مَوْصُولَةٌ، صِلَتُهَا إِنَّ وَمَا فِي حَيِّزِهَا، وَلِهَذَا كُسِرَتْ. وَنَقَلَ الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ عَنِ الْكُوفِيِّينَ مَنْعَ الْمَكْسُورَةِ، وَمَا فِي حَيِّزِهَا صِلَةَ الَّذِي، وَاسْتَقْبَحَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِوُرُودِهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ مَا يُفْتَحُ بِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَفَاتِحِ: الْخَزَائِنُ، فَيَكُونُ وَاحِدُهَا مَفْتَحَ بِفَتْحِ الْمِيمِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ الْمَفَاتِحَ:

الْخَزَائِنُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ كقوله: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ «٢» قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ فَإِنَّهُ قَالَ: الْأَشْبَهُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ مَفَاتِحَهُ: خَزَائِنُ مَالِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ جَمْعُ مِفْتَاحٍ، وَهُوَ مَا يُفْتَحُ به الباب، وهذا قول قتادة ومجاهد لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ وَهِيَ وَاسْمُهَا وَخَبَرُهَا صِلَةُ مَا الْمَوْصُولَةُ، يُقَالُ نَاءَ بِحِمْلِهِ: إِذَا نَهَضَ بِهِ مُثْقَلًا، وَيُقَالُ نَاءَ بِي الْحِمْلُ: إِذَا أَثْقَلَنِي، وَالْمَعْنَى: يُثْقِلُهُمْ حَمْلُ الْمَفَاتِحِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:

هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَالْمَعْنَى: لَتَنُوءُ بِهَا الْعُصْبَةُ: أَيْ: تَنْهَضُ بِهَا. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: نُؤْتُ بِالْحِمْلِ: إِذَا نَهَضْتَ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ ... عَبْدًا إِذَا مَا نَاءَ بِالْحِمْلِ وَقَفْ

وَقَالَ الْفَرَّاءُ، مَعْنَى تَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ: تُمِيلُهُمْ بِثِقْلِهَا كَمَا يُقَالُ: يَذْهَبُ بِالْبُؤْسِ، وَيَذْهَبُ الْبُؤْسُ، وَذَهَبْتُ بِهِ، وَأَذْهَبْتُهُ، وَجِئْتُ بِهِ، وَأَجَأَتْهُ وَنُؤْتُ بِهِ، وَأَنَأْتُهُ، وَاخْتَارَ هَذَا النَّحَاسُ، وَبِهِ قَالَ كثير من السلف،


(١) . النساء: ٤١.
(٢) . الأنعام: ٥٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>