للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد تقدم بيانه، وفيه مبالغة إِعْرَاضِ ذَلِكَ الْمَعْرَضِ فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أَيْ: أَخْبِرْهُ بِأَنَّ لَهُ الْعَذَابَ الْبَلِيغَ فِي الْأَلَمِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ مَنْ يُعْرِضُ عَنِ الْآيَاتِ بَيَّنَ حَالَ مَنْ يُقْبِلُ عَلَيْهَا فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ: آمَنُوا بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ، وَلَمْ يُعْرِضُوا عَنْهَا بَلْ قَبِلُوهَا، وَعَمِلُوا بِهَا لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أَيْ: نَعِيمُ الْجَنَّاتِ فَعَكَسَهُ لِلْمُبَالَغَةِ، جَعَلَ لَهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، كَمَا جَعَلَ لِلْفَرِيقِ الْأَوَّلِ: الْعَذَابَ الْمُهِينَ، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «خَالِدُونَ فِيهَا» عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ لِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا هُمَا مُصْدَرَانِ الْأَوَّلُ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ، أَيْ: وَعَدَ اللَّهُ وَعْدًا، وَالثَّانِي: مُؤَكِّدٌ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَتَقْدِيرُهُ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. وَالْمَعْنَى أَنَّ وَعْدَهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا خُلْفَ فِيهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ الْحَكِيمُ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، وَأَقْوَالِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ عِزَّتَهُ، وَحِكْمَتْهُ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها الْعَمَدُ: جَمْعُ عِمَادٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، وَتَرَوْنَهَا: فِي مَحَلِّ جَرِّ صِفَةٍ لِعَمَدٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ ثَمَّ عَمَدٌ، وَلَكِنْ لَا تُرَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَلَا عَمَدَ الْبَتَّةَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، أَيْ: وَلَا عَمَدَ ثَمَّ وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَيْ: جِبَالًا ثَوَابِتَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ تَمِيدَ بكم، والكوفيون يقدّرونه لئلا تميد، والمعنى: أنه خلقها وَجَعَلَهَا مُسْتَقِرَّةً ثَابِتَةً لَا تَتَحَرَّكُ بِجِبَالٍ جَعَلَهَا عَلَيْهَا وَأَرْسَاهَا عَلَى ظَهْرِهَا وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أَيْ: مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْبَثِّ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أَيْ: أَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا بِسَبَبِ إِنْزَالِهِ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ، أَيْ: مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ كَرِيمًا لِحُسْنِ لَوْنِهِ، وَكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ النَّاسُ، فَالْكَرِيمُ مِنْهُمْ: مَنْ يَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَاللَّئِيمُ: مَنْ يَصِيرُ إِلَى النَّارِ. قَالَهُ:

الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هذا إلى ما ذكر في خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَهُوَ:

مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: خَلْقُ اللَّهِ أَيْ: مَخْلُوقُهُ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ مِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ: لِلتَّقْرِيعِ، وَالتَّوْبِيخِ، وَالْمَعْنَى: فَأَرُونِي أَيَّ شَيْءٍ خَلَقُوا مِمَّا يُحَاكِي خَلْقَ اللَّهِ أَوْ يُقَارِبُهُ؟

وَهَذَا الْأَمْرُ لَهُمْ لِقَصْدِ التَّعْجِيزِ وَالتَّبْكِيتِ. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ تَبْكِيتِهِمْ بِمَا ذَكَرَ إِلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ الظَّاهِرِ، فَقَالَ: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ فَقَرَّرَ ظُلْمَهُمْ أَوَّلًا، وَضَلَالَهُمْ ثَانِيًا، وَوَصَفَ ضَلَالَهُمْ بِالْوُضُوحِ وَالظُّهُورِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَلَا يَعْقِلُ الْحُجَّةَ، وَلَا يَهْتَدِي إِلَى الْحَقِّ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ يَعْنِي:

بَاطِلَ الْحَدِيثِ. وَهُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ اشْتَرَى أَحَادِيثَ الْأَعَاجِمِ وَصَنِيعَهُمْ فِي دَهْرِهِمْ. وَكَانَ يَكْتُبُ الْكُتُبَ مِنَ الْحِيرَةِ إِلَى الشَّامِ، وَيُكَذِّبُ بِالْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: بَاطِلُ الْحَدِيثِ. وَهُوَ الْغِنَاءُ وَنَحْوُهُ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَذِكْرُ اللَّهِ، نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مُغَنِّيَةً. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ الْغِنَاءُ، وَأَشْبَاهُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ

<<  <  ج: ص:  >  >>