للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي أَخْفَى مَكَانٍ وَأَحْرَزِهِ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أَيْ: أَوْ حَيْثُ كَانَتْ من بقاع السموات أَوْ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أَيْ: يُحْضِرُهَا، وَيُحَاسِبُ فَاعِلَهَا عَلَيْهَا إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. بَلْ يَصِلُ عِلْمُهُ إِلَى كُلِّ خَفِيٍّ خَبِيرٌ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «إِنْ تَكُ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى مَعْنَى إِنْ تَكُ الْخَطِيئَةُ أَوِ الْمَسْأَلَةُ أَوِ الْخَصْلَةُ أَوِ الْقِصَّةُ. وَقَرَءُوا «مِثْقَالَ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ.

وَاسْمُهَا هُوَ أَحَدُ تِلْكَ الْمُقَدَّرَاتِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِرَفْعِ مِثْقَالَ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ، وَهِيَ تَامَّةٌ. وَأَنَّثَ الْفِعْلَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِإِضَافَةِ مِثْقَالٍ إِلَى الْمُؤَنَّثِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «فَتَكُنْ» بِضَمِّ الْكَافِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ بِكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ النُّونِ، مِنَ الْكَنِّ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ الْمُغَطَّى. قَالَ السُّدِّيُّ: هَذِهِ الصخرة هي صخرة ليست في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْ لُقْمَانَ أَنَّهُ أَمَرَ ابْنَهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ: أَنَّهَا أُمَّهَاتُ الْعِبَادَاتِ، وَعِمَادُ الْخَيْرِ كُلَّهِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ إِلَى الطَّاعَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَخَبَرُ إِنَّ: قَوْلُهُ: مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أَيْ: مِمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ عَزِيمَةً، وَأَوْجَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: مِنْ حَقِّ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَالْعَزْمُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَعْزُومِ، أَيْ: مِنْ مَعْزُومَاتِ الْأُمُورِ، أَوْ بِمَعْنَى الْعَازِمِ كَقَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «١» قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْعَيْنَ تُبْدَلُ حَاءً. فَيُقَالُ عَزْمٌ وَحَزْمٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ أَهْلِ الْأَخْلَاقِ، وَعَزَائِمِ أَهْلِ الْحَزْمِ السَّالِكِينَ طَرِيقَ النَّجَاةِ، وَصَوَّبَ هذا القرطبي وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُصَعِّرْ» وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ «تُصَاعِرْ» ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَالصَّعَرُ: الْمَيْلُ، يُقَالُ صَعَّرَ خَدَّهُ وَصَاعَرَ خَدَّهُ: إِذَا أَمَالَ وَجْهَهُ، وَأَعْرَضَ تَكَبُّرًا، وَالْمَعْنَى: لَا تُعْرِضْ عَنِ النَّاسِ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... مَشَيْنَا إِلَيْهِ بِالسُّيُوفِ نُعَاتِبُهْ

وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَكَذَا:

وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا «٢»

قَالَ الْهَرَوِيُّ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أَيْ: لَا تُعْرِضْ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا، يُقَالُ أَصَابَ الْبَعِيرَ صَعَرٌ: إِذَا أَصَابَهُ دَاءٌ يَلْوِي عُنُقَهُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَا تَلْوِ شِدْقَكَ إِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ عِنْدَكَ كَأَنَّكَ تَحْتَقِرُهُ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ: كَأَنَّهُ نَهَى أَنْ يُذِلَّ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلَعَلَّهُ فَهِمَ مِنَ التَّصْعِيرِ التَّذَلُّلَ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أَيْ: خُيَلَاءَ وَفَرِحًا، وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ عَنِ التَّكَبُّرِ، وَالتَّجَبُّرِ، وَالْمُخْتَالُ يَمْرَحُ فِي مَشْيِهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، جملة إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ: تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ لِأَنَّ الِاخْتِيَالَ: هُوَ الْمَرَحُ، وَالْفَخُورُ: هو الذي يفتخر على الناس بماله مِنَ الْمَالِ، أَوِ الشَّرَفِ، أَوِ الْقُوَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْهُ: التَّحَدُّثُ بِنِعَمِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «٣» وَاقْصِدْ فِي


(١) . محمّد: ٢١.
(٢) . قال ابن عطية: فتقوّم لأن قافية الشعر مخفوضة، والمعنى: فتقوّم أنت. القرطبي (١٤/ ٦٩) .
(٣) . الضحى: ١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>