الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ لِكُلِّ أَحَدٍ يَصْلُحُ لذلك، أو للرسول صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أَيْ: يُدْخِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ: الْحَجِّ، وَالْأَنْعَامِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَيْ: ذَلَّلَهُمَا، وَجَعَلَهُمَا مُنْقَادَيْنَ بِالطُّلُوعِ، وَالْأُفُولِ تَقْدِيرًا لِلْآجَالِ، وَتَتْمِيمًا لِلْمَنَافِعِ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِهِمَا كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اخْتُلِفَ فِي الْأَجَلِ الْمُسَمَّى مَاذَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: وَقْتُ الطُّلُوعِ: وَوَقْتُ الْأُفُولِ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، وَجُمْلَةُ:
وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ، أَيْ: خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، فَقُدْرَتُهُ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا تَعْمَلُونَهُ بِالْأَوْلَى، قَرَأَ الْجُمْهُورُ:
«تَعْمَلُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَنَصْرُ بْنُ عَامِرٍ وَالدُّورِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّ اللَّهَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْحَقُّ وَغَيْرُهُ الْبَاطِلُ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَعَلَ ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ قَالَ مُجَاهِدٌ: الَّذِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الشَّيْطَانُ، وَقِيلَ: مَا أَشْرَكُوا بِهِ مِنْ صنم، وَهَذَا أَوْلَى وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ معطوفة على جملة «أن اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الصُّنْعَ الْبَدِيعَ الَّذِي وَصَفَهُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى حَقِيَّةِ اللَّهِ، وَبُطْلَانِ مَا سِوَاهُ، وَعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ: هُوَ الْعَلِيُّ فِي مَكَانَتِهِ، ذُو الْكِبْرِيَاءِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَسُلْطَانِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ عَجِيبِ صُنْعِهِ، وَبَدِيعِ قُدْرَتِهِ نَوْعًا آخَرَ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ أَيْ: بِلُطْفِهِ بِكُمْ، وَرَحْمَتِهِ لَكُمْ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمَهِ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهَا تُخَلِّصُكُمْ مِنَ الْغَرَقِ عِنْدَ أَسْفَارِكُمْ فِي الْبَحْرِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ، وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ «بِنِعَمَاتِ اللَّهِ» جَمْعُ نِعْمَةٍ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: لِيُرِيَكُمْ بَعْضَ آيَاتِهِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: وَهُوَ جَرْيُ السُّفُنِ فِي الْبَحْرِ بِالرِّيحِ.
وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «مِنْ آيَاتِهِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ. وَقَالَ النَّقَاشُ: مَا يَرْزُقُهُمُ اللَّهُ فِي الْبَحْرِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: إِنَّ فِيمَا ذُكِرَ لَآيَاتٍ عَظِيمَةٍ لِكُلٍّ مَنْ لَهُ صَبْرٌ بَلِيغٌ، وَشُكْرٌ كَثِيرٌ يَصْبِرُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَيَشْكُرُ نِعَمَهُ وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ شَبَّهَ الْمَوْجَ لِكِبَرِهِ: بِمَا يُظِلُّ الْإِنْسَانَ مِنْ جَبَلٍ، أَوْ سَحَابٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا شَبَّهَ الْمَوْجَ وَهُوَ وَاحِدٌ بِالظُّلَلِ.
وهي جمع، لأن الموج يَأْتِي شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَيَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوْجَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَأَصْلُ الْمَوْجِ: الْحَرَكَةُ، وَالِازْدِحَامُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: مَاجَ الْبَحْرُ، وَمَاجَ النَّاسُ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ «مَوْجٌ كَالظِّلَالِ» جَمْعُ ظِلٍّ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أَيْ: دَعَوُا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُعَوِّلُونَ عَلَى غَيْرِهِ فِي خَلَاصِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ سِوَاهُ، وَلَكِنَّهُ تَغْلِبُ عَلَى طَبَائِعِهِمُ الْعَادَاتُ، وَتَقْلِيدُ الْأَمْوَاتِ، فَإِذَا وَقَعُوا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ اعْتَرَفُوا بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لَهُ طَلَبًا لِلْخَلَاصِ، وَالسَّلَامَةِ مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ صَارُوا عَلَى قِسْمَيْنِ: فَقِسْمٌ مُقْتَصِدٌ أَيْ: موف بما عاهد اللَّهَ فِي الْبَحْرِ مِنْ إِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ بَاقٍ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ نَجَّاهُ اللَّهُ مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ، وَأَخْرَجَهُ إِلَى الْبَرِّ سَالِمًا. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى مُقْتَصِدٌ مُؤْمِنٌ مُتَمَسِّكٌ بِالتَّوْحِيدِ، وَالطَّاعَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُقْتَصِدٌ فِي الْقَوْلِ مُضْمِرٌ للكفر،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute