غَيْرُهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ إِذَا فَعَلْنَ تِلْكَ الطَّاعَةِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى «يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ» :
أَنَّهُ يَكُونُ الْعَذَابُ مَرَّتَيْنِ لَا ثَلَاثًا، لِأَنَّ الْمُرَادَ إِظْهَارُ شَرَفِهِنَّ، ومَزِيَّتِهِنَّ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، بِكَوْنِ حَسَنَتِهِنَّ كَحَسَنَتَيْنِ، وَسَيِّئَتِهِنَّ كَسَيِّئَتَيْنِ، وَلَوْ كَانَتْ سَيِّئَتُهُنَّ كَثَلَاثِ سَيِّئَاتٍ لَمْ يُنَاسِبْ ذَلِكَ كَوْنُ حَسَنَتِهِنَّ كَحَسَنَتَيْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُضَاعِفَ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِنَّ مُضَاعَفَةً تَزِيدُ عَلَى مُضَاعَفَةِ أَجْرِهِنَّ وَأَعْتَدْنا لَها زِيَادَةً عَلَى الْأَجْرِ مَرَّتَيْنِ رِزْقاً كَرِيماً. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الرِّزْقُ الْكَرِيمُ هُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ، حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمُ النَّحَّاسُ.
ثُمَّ أَظْهَرَ سُبْحَانَهُ فَضِيلَتَهُنَّ على سائر النساء تصريحا، فقال: يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَقُلْ كَوَاحِدَةٍ مِنَ النِّسَاءِ، لأن أحد: نَفْيٌ عَامٌّ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَالْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ. وَقَدْ يُقَالُ عَلَى مَا لَيْسَ بِآدَمِيٍّ كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ لَا شَاةٌ وَلَا بَعِيرٌ. وَالْمَعْنَى: لَسْتُنَّ كَجَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ جَمَاعَاتِ النِّسَاءِ فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ. ثُمَّ قَيَّدَ هَذَا الشَّرَفَ الْعَظِيمَ بِقَيْدٍ فَقَالَ: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ لَهُنَّ إِنَّمَا تَكُونُ بِمُلَازَمَتِهِنَّ لِلتَّقْوَى، لَا لِمُجَرَّدِ اتِّصَالِهِنَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقَدْ وَقَعَتْ مِنْهُنَّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ التَّقْوَى الْبَيِّنَةُ، وَالْإِيمَانُ الْخَالِصُ، وَالْمَشْيُ عَلَى طَرِيقَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ أَيْ: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّ جَوَابَهُ فَلا تَخْضَعْنَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَعْنَى فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ لَا تُلِنَّ الْقَوْلَ عِنْدَ مُخَاطَبَةِ النَّاسِ كَمَا تَفْعَلُهُ الْمُرِيبَاتُ مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ يَتَسَبَّبُ عَنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أَيْ: فُجُورٌ وَشَكٌّ وَنِفَاقٌ، وَانْتِصَابُ يَطْمَعَ لِكَوْنِهِ جَوَابَ النَّهْيِ. كَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ الْأَعْرَجَ قَرَأَ «فَيَطْمِعَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَحْسَبُ هَذَا غَلَطًا، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي السَّمْأَلِ، وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ فِعْلِ النَّهْيِ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً عِنْدَ النَّاسِ بَعِيدًا مِنَ الرِّيبَةِ عَلَى سنن الشرع، لا ينكر سَامِعُهُ شَيْئًا، وَلَا يَطْمَعُ فِيهِنَّ أَهْلُ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ بِسَبَبِهِ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَقِرْنَ» بِكَسْرِ الْقَافِ مِنْ وَقَرَ يَقِرُ وَقَارًا: أَيْ: سَكَنَ، وَالْأَمْرُ مِنْهُ:
قِرْ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَلِلنِّسَاءِ: قِرْنَ، مِثْلُ: عِدْنَ وَزِنَّ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مِنَ الْقَرَارِ، لَا مِنَ الْوَقَارِ، تَقُولُ:
قَرَرْتُ بِالْمَكَانِ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَالْأَصْلُ: اقْرِرْنَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، فَحُذِفَتِ الرَّاءُ الْأُولَى تَخْفِيفًا، كَمَا قَالُوا فِي ظَلِلْتُ ظَلْتُ، وَنَقَلُوا حَرَكَتَهَا إِلَى الْقَافِ، وَاسْتُغْنِيَ عَنْ أَلِفِ الْوَصْلِ بِتَحْرِيكِ الْقَافِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أُبْدِلَتِ الرَّاءُ الْأُولَى يَاءً كَرَاهَةَ التَّضْعِيفِ كَمَا أُبْدِلَتْ فِي قِيرَاطٍ وَدِينَارٍ، وَصَارَ لِلْيَاءِ حَرَكَةُ الْحَرْفِ الَّذِي أُبْدِلَتْ مِنْهُ، وَالتَّقْدِيرُ اقِيرْنَ، ثُمَّ تُلْقَى حَرَكَةُ الْيَاءِ عَلَى الْقَافِ كَرَاهَةَ تَحْرِيكِ الْيَاءِ بِالْكَسْرِ فَتَسْقُطُ الْيَاءُ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ، وَتَسْقُطُ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِتَحْرِيكِ مَا بَعْدَهَا فَيَصِيرُ قَرْنَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الْقَافِ وَأَصْلُهُ قَرِرْتُ بِالْمَكَانِ:
إِذَا أَقَمْتَ فِيهِ بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَقَرُّ بِفَتْحِ الْقَافِ كَحَمِدَ يَحْمَدُ، وهي لغة أهل الحجاز، ذكر أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَذَكَرَهَا الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ كَمَا تَقُولُ: هَلْ حَسْتَ صَاحِبَكَ؟ أَيْ: هَلْ أَحْسَسْتَهُ؟ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَانَ أَشْيَاخُنَا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُنْكِرُونَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَتْحِ لِلْقَافِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَرِرْتُ بِالْمَكَانِ أَقَرُّ لَا يُجَوِّزُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالصَّحِيحُ قررت أقرّ بالكسر، ومعناه: الأمر لهنّ بالتوقير وَالسُّكُونِ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَأَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute