للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَمْ يُرِدِ الْمُخْبِرُ أَنْ يُبَيِّنَ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِنَّا عَلَى هُدًى وَإِيَّاكُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:

أَثَعْلَبَةَ الْفَوَارِسِ أو رياحا ... عدلت بهم طهيّة والخشابا «١»

أي ثعلبة ورياحا، وَكَذَا قَوْلُ الْآخَرِ:

فَلَمَّا اشْتَدَّ بَأْسُ الْحَرْبِ فينا ... تأمّلنا رياحا أَوْ رِزَامَا

أَيْ: وَرِزَامًا، وَقَوْلُهُ: أَوْ إِيَّاكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَخَبَرُهَا: هُوَ الْمَذْكُورُ، وَحُذِفَ خَبَرُ الثَّانِي لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، أَيْ: إِنَّا لَعَلَى هُدًى، أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَإِنَّكُمْ لَعَلَى هُدًى، أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ:

وَهُوَ كَوْنُ الْمَذْكُورِ خَبَرَ الثَّانِي، وَخَبَرِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «٢» ثُمَّ أَرْدَفَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْكَلَامَ الْمُنْصِفَ بِكَلَامٍ أَبْلَغَ مِنْهُ فِي الْإِنْصَافِ، وَأَبْعَدَ مِنَ الْجَدَلِ والمشاغبة فقال: قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أَيْ: إِنَّمَا أَدْعُوكُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَنَفْعٌ، وَلَا يَنَالُنِي مِنْ كُفْرِكُمْ وَتَرْكِكُمْ لِإِجَابَتِي ضَرَرٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «٣» وَفِي إِسْنَادِ الْجُرْمِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَنِسْبَةِ مُطْلَقِ الْعَمَلِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، مَعَ كَوْنِ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْبِرِّ الْخَالِصِ وَالطَّاعَةِ الْمَحْضَةِ، وَأَعْمَالِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْبَيِّنَةِ، وَالْإِثْمِ الْوَاضِحِ مِنَ الْإِنْصَافِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ. وَالْمَقْصُودُ: الْمُهَادَنَةُ وَالْمُتَارَكَةُ، وَقَدْ نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمْثَالُهَا بِآيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُهَدِّدَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ فَقَالَ: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أَيْ: يَحْكُمُ وَيَقْضِي بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، فَيُثِيبُ الْمُطِيعَ، وَيُعَاقِبُ الْعَاصِيَ وَهُوَ الْفَتَّاحُ أَيْ: الْحَاكِمُ بِالْحَقِّ الْقَاضِي بِالصَّوَابِ الْعَلِيمُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ. وَهَذِهِ أَيْضًا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِمْ حُجَّةً أُخْرَى يُظْهِرُ بِهَا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَأِ فَقَالَ: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أَيْ: أَرَوْنِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمُوهُمْ بِاللَّهِ شُرَكَاءَ لَهُ، وَهِذِهِ الرُّؤْيَةُ: هِيَ الْقَلْبِيَّةُ، فَيَكُونُ شُرَكَاءَ: هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّالِثُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ تَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَى ثَلَاثَةٍ. الْأَوَّلُ: الْيَاءُ فِي أَرَوْنِيَ، وَالثَّانِي: الْمَوْصُولُ، وَالثَّالِثُ: شُرَكَاءَ، وَعَائِدُ الْمَوْصُولِ:

مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَلْحَقْتُمُوهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْبَصَرِيَّةُ، وَتَعَدَّى الْفِعْلُ بِالْهَمْزَةِ إِلَى اثْنَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْيَاءُ، وَالثَّانِي: الْمَوْصُولُ، وَيَكُونُ شُرَكَاءَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَأَبْطَلَ ذَلِكَ فَقَالَ:

كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ: ارْتَدِعُوا عَنْ دَعْوَى الْمُشَارَكَةِ، بَلِ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، الْحَكِيمُ بِالْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالَ: جُلِّيَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا أَوْحَى الْجَبَّارُ إلى محمّد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ دَعَا الرَّسُولَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَبْعَثَهُ بِالْوَحْيِ،


(١) . ثعلبة ورياح: ممدوحا جرير، وطهية والخشاب: مهجوا جرير. [ديوان جرير: ٥٨] .
(٢) . التوبة: ٦٢.
(٣) . الكافرون: ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>