للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ ذَهَبٍ إِلَى آخِرِ مَا سَيَأْتِي. وَوَجْهُ كَوْنِهِ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ أَنَّهُ نَقَصَهَا مِنَ الثَّوَابِ بِمَا فَعَلَ مِنَ الصَّغَائِرِ الْمَغْفُورَةِ لَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ عَمِلَ مَكَانَ تِلْكَ الصَّغَائِرِ طَاعَاتٍ لَكَانَ لِنَفْسِهِ فِيهَا مِنَ الثَّوَابِ حَظًّا عَظِيمًا، وَقِيلَ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ هُوَ صَاحِبُ الْكَبَائِرِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَفْسِيرِ السَّابِقِ وَالْمُقْتَصِدِ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّ الْمُقْتَصِدَ الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي، وَالسَّابِقَ التَّقِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ السَّابِقُونَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْمُقْتَصِدَ هُوَ الَّذِي يُعْطِي الدُّنْيَا حَقَّهَا وَالْآخِرَةَ حَقَّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الظَّالِمُ الَّذِي تَرْجَحُ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ، وَالسَّابِقُ: مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: أَصْحَابُ الْكَبَائِرِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي لَمْ يُصِبْ كَبِيرَةً، وَالسَّابِقُ: الَّذِي سَبَقَ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَحَكَى النَّحَّاسُ أَنَّ الظَّالِمَ: صَاحِبُ الْكَبَائِرِ، وَالْمُقْتَصِدَ: الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَنَّةَ بِزِيَادَةِ حَسَنَاتِهِ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، فَتَكُونُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها لِلَّذِينَ سَبَقُوا بِالْخَيْرَاتِ لَا غَيْرُ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي حَقِيقَةِ النَّظَرِ لِمَا يَلِيهِ أَوْلَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ. فِيهِمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ: أَيْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: السَّابِقُ: الْعَالِمُ، وَالْمُقْتَصِدُ: الْمُتَعَلِّمُ، وَالظَّالِمُ لِنَفَسِهِ:

الْجَاهِلُ. وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: الظَّالِمُ لِنَفَسِهِ: الذَّاكِرُ لِلَّهِ بِلِسَانِهِ فقط، المقتصد: الذَّاكِرُ بِقَلْبِهِ، وَالسَّابِقُ:

الَّذِي لَا يَنْسَاهُ. وَقَالَ الْأَنْطَاكِيُّ: الظَّالِمُ: صَاحِبُ الْأَقْوَالِ، وَالْمُقْتَصِدُ: صَاحِبُ الْأَفْعَالِ، وَالسَّابِقُ:

صَاحِبُ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الظَّالِمُ: الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ مِنْ أَجْلِ الدُّنْيَا، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ مِنْ أَجْلِ الْعُقْبَى، وَالسَّابِقُ: الَّذِي أَسْقَطَ مُرَادَهُ بِمُرَادِ الْحَقِّ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ خَوْفًا مِنَ النَّارِ، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي يَعْبُدُهُ طَمَعًا فِي الْجَنَّةِ، وَالسَّابِقُ: الَّذِي يَعْبُدُهُ لَا لِسَبَبٍ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ الَّذِي يُحِبُّ نَفْسَهُ، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي يُحِبُّ دِينَهُ، وَالسَّابِقُ: الَّذِي يُحِبُّ رَبَّهُ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ الَّذِي يَنْتَصِفُ وَلَا يُنْصِفُ، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي يَنْتَصِفُ وَيُنْصِفُ، وَالسَّابِقُ: الَّذِي يُنْصِفُ وَلَا يَنْتَصِفُ. وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ أَقْوَالًا كَثِيرَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعَانِيَ اللُّغَوِيَّةَ لِلظَّالِمِ وَالْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ مَعْرُوفَةٌ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى الظُّلْمِ لِلنَّفْسِ بِمُجَرَّدِ إِحْرَامِهَا لِلْحَظِّ، وَتَفْوِيتِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهَا، فَتَارِكُ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ قَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِاعْتِبَارِ مَا فَوَّتَهَا مِنَ الثَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ تَارِكًا لِمَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ مِمَّنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ، وَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ، وَمِنْ هذا قول آدم: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا «١» وقول يونس إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «٢» وَمَعْنَى الْمُقْتَصِدِ هُوَ مَنْ يَتَوَسَّطُ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَلَا يَمِيلُ إِلَى جَانِبِ الْإِفْرَاطِ، وَلَا إِلَى جَانِبِ التَّفْرِيطِ وَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا السَّابِقُ: فَهُوَ الَّذِي سَبَقَ غَيْرَهُ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَهُوَ خَيْرُ الثَّلَاثَةِ.

وَقَدِ اسْتُشْكِلَ تقديم الظالم على المقتصد، وتقديمها عَلَى السَّابِقِ، مَعَ كَوْنِ الْمُقْتَصِدِ أَفْضَلَ مِنَ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ، وَالسَّابِقِ أَفْضَلَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ: إِنَّ التَّقْدِيمَ لَا يَقْتَضِي التَّشْرِيفَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ


(١) . الأعراف: ٢٣.
(٢) . الأنبياء: ٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>