للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْ تَزُولا لِئَلَّا تَزُولَا، أَوْ: كَرَاهَةَ أَنْ تَزُولَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَمْنَعُ السموات وَالْأَرْضَ مِنْ أَنْ تَزُولَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ وَلَوْ زَالَتَا مَا أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ، قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ:

وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ زَوَالُهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَجُمْلَةُ:

إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ إمساكه تعالى للسموات وَالْأَرْضِ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الْمُرَادُ قُرَيْشٌ، أَقْسَمُوا قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، بِهَذَا الْقَسَمِ حِينَ بَلَغَهُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَمَعْنَى: مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ يَعْنِي: الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، وَالنَّذِيرُ: النَّبِيُّ، وَالْهُدَى: الِاسْتِقَامَةُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ رَسُولٌ كَمَا كَانَ الرُّسُلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا تَمَنَّوْهُ، وَهُوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ نَذِيرٌ وَأَكْرَمُ مُرْسَلٍ وَكَانَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا زادَهُمْ مَجِيئُهُ إِلَّا نُفُوراً مِنْهُمْ عَنْهُ، وَتَبَاعُدًا عَنْ إِجَابَتِهِ اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ أي: لأجل الاستكبار والعتوّ وَلأجل مَكْرَ السَّيِّئِ أَيْ: مَكْرَ الْعَمَلِ السَّيِّئِ، أَوْ: مَكَرُوا الْمَكْرَ السَّيِّئَ، وَالْمَكْرُ: هُوَ الْحِيلَةُ وَالْخِدَاعُ، وَالْعَمَلُ الْقَبِيحُ، وَأُضِيفَ إِلَى صِفَتِهِ كَقَوْلِهِ: مَسْجِدُ الجامع، وصلاة الأولى، وأنث إحدى لكونه أُمَّةٍ مُؤَنَّثَةً كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ:

مِنَ الْأُمَّةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا إِحْدَى الْأُمَمِ تَفْضِيلًا لَهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَمَكْرَ السَّيِّئِ» بِخَفْضِ هَمْزَةِ السيء، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ بِسُكُونِهَا وَصْلًا. وَقَدْ غَلَّطَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَنَزَّهُوا الْأَعْمَشَ عَلَى جَلَالَتِهِ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا، قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَ يَقِفُ بِالسُّكُونِ، فَغَلِطَ مَنْ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِالسُّكُونِ وَصْلًا، وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مُمْكِنٌ، بِأَنَّ مَنْ قَرَأَ بِهَا أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ

بِسُكُونِ الْبَاءِ مِنْ أَشْرَبْ، وَمِثْلُهُ قراءة من قرأ «وما يشعركم» بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو «إلى بارئكم» بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هَذَا عَلَى إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «وَمَكْرًا سَيِّئًا» وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أَيْ: لَا تَنْزِلُ عَاقِبَةُ السُّوءِ إِلَّا بِمَنْ أَسَاءَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَحِيقُ بِمَعْنَى يُحِيطُ، وَالْحَوْقُ الْإِحَاطَةُ، يُقَالُ حَاقَ بِهِ كَذَا إِذَا أَحَاطَ بِهِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَى يَحِيقُ فِي لُغَةِ العرب، ولكن قطرب فسره هنا بينزل، وأنشد:

وقد دفعوا الْمَنِيَّةَ فَاسْتَقَلَّتْ ... ذِرَاعًا بَعْدَ مَا كَانَتْ تَحِيقُ

أي تنزل فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أَيْ: سُنَّةَ اللَّهِ فِيهِمْ بِأَنْ يَنْزِلَ بِهَؤُلَاءِ الْعَذَابُ كَمَا نَزَلَ بِأُولَئِكَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُبَدِّلَ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي سَنَّهَا بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنْ إِنْزَالِ عَذَابِهِ بِهِمْ بِأَنْ يَضَعَ مَوْضِعَهُ غيره بدلا عنه وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا بِأَنْ يُحَوِّلَ مَا جَرَتْ بِهِ سُنَّةُ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَيَدْفَعُهُ عَنْهُمْ، وَيَضَعُهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَنَفْيُ وِجْدَانِ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْوِيلِ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْيِ وُجُودِهِمَا أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ مَعْنَى مَا قَبْلَهَا وتأكيده،

<<  <  ج: ص:  >  >>