للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنَ التَّوْحِيدِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ. وَظَاهِرُهُ يَشْمَلُ الْآيَاتِ التَّنْزِيلِيَّةَ، وَالْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةَ، وَجُمْلَةُ: إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَالْمُرَادُ بِالْإِعْرَاضِ: عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَتَرْكُ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِيهَا، وَهَذِهِ الآية متعلقة بقوله: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ: إِذَا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ كَذَّبُوا، وَإِذَا أُتُوا بِالْآيَاتِ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أَيْ: تَصَدَّقُوا عَلَى الْفُقَرَاءِ مِمَّا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ، قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي الْيَهُودَ أُمِرُوا بِإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ:

أَنْفِقُوا عَلَى الْمَسَاكِينِ مِمَّا زَعَمْتُمْ أَنَّهُ لِلَّهِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً «١» فَكَانَ جَوَابُهُمْ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اسْتِهْزَاءً بِهِمْ، وَتَهَكُّمًا بِقَوْلِهِمْ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ أَيْ: مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ رَزَقَهُ، وَقَدْ كَانُوا سَمِعُوا الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّزَّاقَ هُوَ اللَّهُ، وَأَنَّهُ يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ فَكَأَنَّهُمْ حَاوَلُوا بِهَذَا الْقَوْلِ الْإِلْزَامَ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: نَحْنُ نُوَافِقُ مَشِيئَةَ اللَّهِ فَلَا نُطْعِمُ مَنْ لَمْ يُطْعِمْهُ اللَّهُ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ، وَمُكَابَرَةٌ وَمُجَادَلَةٌ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَغْنَى بَعْضَ خَلْقِهِ وَأَفْقَرَ بَعْضًا، وَأَمَرَ الْغَنِيَّ أَنْ يُطْعِمَ الْفَقِيرَ، وَابْتَلَاهُ بِهِ فِيمَا فَرَضَ لَهُ مِنْ مَالِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ. وَقَوْلُهُمْ: مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ هُوَ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا بِهِ الْإِنْكَارَ لِقُدْرَةِ اللَّهِ، أَوْ إِنْكَارَ جَوَازِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ مَعَ قُدْرَةِ اللَّهِ كَانَ احْتِجَاجُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بَاطِلًا. وَقَوْلُهُ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْكُفَّارِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ فِي سُؤَالِ الْمَالِ، وَأَمْرِنَا بِإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ لَفِي ضَلَالٍ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَالظُّهُورِ. وَقِيلَ هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ جَوَابًا عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي قَالَهَا الْكُفَّارُ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ. وَقَدْ كَانَ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ قَوْمٌ يَتَزَنْدَقُونَ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِالصَّانِعِ، فَقَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ اسْتِهْزَاءً بِالْمُسْلِمِينَ وَمُنَاقَضَةً لَهُمْ. وَحَكَى نَحْوَ هَذَا الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ الَّذِي تَعِدُونَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْقِيَامَةِ، وَالْمَصِيرِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِيمَا تَقُولُونَهُ وَتَعِدُونَا بِهِ. قَالُوا ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ وَسُخْرِيَةً بِالْمُؤْمِنِينَ. وَمَقْصُودُهُمْ إِنْكَارُ ذَلِكَ بِالْمَرَّةِ، وَنَفْيُ تَحَقُّقِهِ وَجَحْدُ وُقُوعِهِ، فَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أَيْ: مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ نَفْخَةُ إِسْرَافِيلَ فِي الصُّورِ تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أَيْ:

يَخْتَصِمُونَ فِي ذَاتِ بَيْنِهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَهَذِهِ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَهِيَ نَفْخَةُ الصَّعْقِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي يَخِصِّمُونَ، فَقَرَأَ حَمْزَةُ بِسُكُونِ الْخَاءِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ مِنْ خَصَمَ يَخْصِمُ، وَالْمَعْنَى:

يَخْصِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ بِإِخْفَاءِ فَتْحَةِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَهِشَامٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ أَخْلَصُوا فَتْحَةَ الْخَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بكسر الخاء وتشديد الصاد. والأصل


(١) . الأنعام: ١٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>