للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَتَادَةُ: عُزِلُوا عَنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَمْتَازُ الْمُجْرِمُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَيَمْتَازُ الْيَهُودُ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى فِرْقَةً، وَالْمَجُوسُ فِرْقَةً، وَالصَّابِئُونَ فِرْقَةً، وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فِرْقَةً. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ الْجَرَّاحِ: يَمْتَازُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُجْرِمِينَ إِلَّا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ مَعَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ سبحانه وقرعهم بقوله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَالُ لَهُمْ. وَالْعَهْدُ: الْوَصِيَّةُ، أَيْ: أَلَمْ أُوصِكُمْ وَأُبْلِغْكُمْ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِي أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ، أَيْ: لَا تُطِيعُوهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ يَا بَنِي آدَمَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الَّذِينَ أُمِرُوا بِالِاعْتِزَالِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: لَا لِلنَّهْيِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَهْدِ هُنَا: الْمِيثَاقُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ حِينَ أُخْرِجُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَقِيلَ: هُوَ مَا نَصَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ النَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَقَبُولِ وَسْوَسَتِهِ، وَجُمْلَةُ وَأَنِ اعْبُدُونِي عَطْفٌ على أن لا تعبدوا، وأن فِي الْمَوْضِعَيْنِ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِلْعَهْدِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً فِيهِمَا، أي ألم أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا بِأَنِ اعْبُدُونِي، أَوْ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ فِي تَرْكِ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَفِي عِبَادَتِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أَيْ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ، أَوِ الْإِشَارَةُ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ لِبَنِي آدَمَ فَقَالَ: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّقْرِيعِ والتوبيخ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَضَلَّ إِلَخْ. قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ جِبِلًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَقَرَأَ أَبُو عمرو، وابن عامر بضم الجيم وسكون الباء، وقرأ الباقون بضمتين مع تخفيف اللام، وقرأ ابن إِسْحَاقَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ هُرْمُزَ بِضَمَّتَيْنِ مَعَ تَشْدِيدِ اللَّامِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْحَسَنُ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَالنَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَرَأَ أَبُو يَحْيَى، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَبْيَنُهَا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ قَرَءُوا جَمِيعًا وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ «١» بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، فَيَكُونُ جِبِلًّا جَمْعَ جِبِلَّةٍ، وَاشْتِقَاقُ الْكُلِّ مِنْ جَبَلَ اللَّهُ الْخَلْقَ، أَيْ: خَلَقَهُمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَغْوَى خَلْقًا كَثِيرًا كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أُمَمًا كَثِيرَةً. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَالْقِرَاءَاتُ كُلُّهَا بِمَعْنَى الْخَلْقِ، وَقُرِئَ «جِيلًا» بِالْجِيمِ وَالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الْجِيلُ الْوَاحِدُ عَشْرَةُ آلَافٍ، والكثير ما يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ، أَيْ: أَتُشَاهِدُونَ آثَارَ الْعُقُوبَاتِ، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ، أَوْ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ عَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ لَكُمْ، أَوْ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ شَيْئًا أَصْلًا قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ الخطاب. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَعِيسَى بِالْغَيْبَةِ هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أَيْ: وَيُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ أَنْ يَدْنُوا مِنَ النَّارِ: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَالْقَائِلُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ يَقُولُونَ لَهُمْ:

اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أَيْ: قَاسُوا حَرَّهَا الْيَوْمَ وَادْخُلُوهَا وَذُوقُوا أَنْوَاعَ الْعَذَابِ فِيهَا بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، أَيْ: بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ بِاللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَطَاعَتِكُمْ لِلشَّيْطَانِ وَعِبَادَتِكُمْ لِلْأَوْثَانِ، وَهَذَا الْأَمْرُ أمر تنكيل


(١) . الشعراء: ١٨٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>