للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَمْ يُنْكِرْهُ مَنْ هُوَ مَخْلُوقٌ خَلْقًا أَقْوَى مِنْهُمْ وَأَعْظَمَ وَأَكْمَلَ وَأَتَمَّ. وَقِيلَ اللَّازِبُ هُوَ الْمُنْتِنُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ.

قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمْ مَنْ خَلَقْنا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَهِيَ أَمِ الْمُتَّصِلَةُ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ ثَانٍ عَلَى قِرَاءَتِهِ. قِيلَ: وَقَدْ قُرِئَ لَازِمٍ وَلَاتِبٍ، وَلَا أَدْرِي مَنْ قَرَأَ بِذَلِكَ. ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَقَالَ: بَلْ عَجِبْتَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَيَسْخَرُونَ مِنْكَ بسبب تعجبك، أو يسخرون مِنْكَ بِمَا تَقُولُهُ مِنْ إِثْبَاتِ الْمَعَادِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ عَجِبْتَ عَلَى الْخِطَابِ للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ وَالْفَرَّاءُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: قَرَأَهَا النَّاسُ بِنَصْبِ التَّاءِ وَرَفْعِهَا، وَالرَّفْعُ أَحَبُّ إِلَيَّ لِأَنَّهَا عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَالْعَجَبُ أَنْ أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ مِنَ اللَّهِ كَمَعْنَاهُ مِنَ الْعِبَادِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبْتَ بَلْ جَازَيْتَهُمْ عَلَى عَجَبِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِالتَّعَجُّبِ مِنَ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ «١» وقالوا: إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ «٢» أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ «٣» وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ بَلْ عَجِبْتُ لِأَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُخَاطَبٌ بِالْقُرْآنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ وَإِضْمَارُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْإِخْبَارِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعَجَبِ أَنَّهُ ظَهَرَ مِنْ أَمْرِهِ وَسُخْطِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْعَجَبِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ. قَالَ الْهَرَوِيُّ:

وَيُقَالُ مَعْنَى عَجِبَ رَبُّكُمْ: أَيْ رَضِيَ رَبُّكُمْ وَأَثَابَ، فَسَمَّاهُ عَجَبًا، وَلَيْسَ بِعَجَبٍ فِي الْحَقِيقَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى عَجِبْتَ هُنَا عَظُمَ فِعْلُهُمْ عِنْدِي. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ مَعْنَى بَلْ عَجِبْتَ: بَلْ أَنْكَرْتَ. قَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ:

التَّعَجُّبُ مِنَ اللَّهِ إِنْكَارُ الشَّيْءِ وَتَعْظِيمُهُ، وَهُوَ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ بَلَغَ فِي كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَكَثْرَةِ مَخْلُوقَاتِهِ إِلَى حَيْثُ عُجِبَ مِنْهَا، وَهَؤُلَاءِ لِجَهْلِهِمْ يَسْخَرُونَ مِنْهَا، وَالْوَاوُ فِي وَيَسْخَرُونَ لِلْحَالِ أَيْ: بَلْ عَجِبْتَ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَسْخَرُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِئْنَافِ وَإِذا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ أَيْ: وَإِذَا وُعِظُوا بِمَوْعِظَةٍ مِنْ مَوَاعِظِ اللَّهِ أَوْ مَوَاعِظِ رَسُولِهِ لَا يَذْكُرُونَ، أَيْ: لَا يَتَّعِظُونَ بِهَا وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا فِيهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ:

أَيْ إِذَا ذُكِرَ لَهُمْ مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا وَإِذا رَأَوْا آيَةً أَيْ مُعْجِزَةً مِنْ مُعْجِزَاتِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَسْتَسْخِرُونَ أَيْ يُبَالِغُونَ فِي السُّخْرِيَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَسْخَرُونَ وَيَقُولُونَ إِنَّهَا سُخْرِيَةٌ، يُقَالُ سَخِرَ وَاسْتَسْخَرَ بِمَعْنًى، مِثْلُ قَرَّ وَاسْتَقَرَّ، وَعَجِبَ وَاسْتَعْجَبَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زيادة المعنى. وقيل معنى يستسخرون: يستدعون السخرية مِنْ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَسْتَهْزِئُونَ وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ: مَا هَذَا الَّذِي تَأْتِينَا بِهِ إِلَّا سِحْرٌ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ: أَيْ أَنُبْعَثُ إِذَا مِتْنَا؟ فَالْعَامِلُ فِي إِذَا هُوَ ما دلّ عليه أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ وهو أنبعث، لا نفس مَبْعُوثُونَ لِتَوَسُّطِ مَا يَمْنَعُ مِنْ عَمَلِهِ فِيهِ، وَهَذَا الْإِنْكَارُ لِلْبَعْثِ مِنْهُمْ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَمَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَهْزَءُوا بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوَاضِعَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ هو: مبتدأ، وخبره: محذوف، وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا، وَقِيلَ: على


(١) . ص: ٤.
(٢) . ص: ٥.
(٣) . يونس: ٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>