إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أَيْ: إِنَّا نَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِالْمُجْرِمِينَ، أَيْ: أَهْلِ الْإِجْرَامِ، وهم المشركون كما يفيده قوله سبحانه: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ أَيْ: إِذَا قِيلَ لَهُمْ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ القول، وَمَحَلُّ يَسْتَكْبِرُونَ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، أَوِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ إِنَّ، وَكَانَ ملغاة وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يَعْنُونُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَيْ: لِقَوْلِ شَاعِرٍ مَجْنُونٍ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ يَعْنِي الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أَيْ: صَدَّقَهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَإِثْبَاتِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ وَلَا جَاءَ بِشَيْءٍ لَمْ تَأْتِ بِهِ الرُّسُلُ قبله إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ أَيْ: إِنَّكُمْ بِسَبَبِ شِرْكِكُمْ وَتَكْذِيبِكُمْ لذائقوا العذاب الشديد الألم. قرأ الجمهور لَذائِقُوا بِحَذْفِ النُّونِ وَخَفْضِ الْعَذَابِ، وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ ثعلب عن عاصم وأبو السمال بِحَذْفِهَا وَنَصْبِ الْعَذَابِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِالْحَذْفِ لِلنُّونِ وَالنَّصْبِ لِلْعَذَابِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلَا ذَاكِرَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ أَيْضًا وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ بنصب الصلاة على هذا التوجيه. وقد قريء بِإِثْبَاتِ النُّونِ وَنَصْبِ الْعَذَابِ عَلَى الْأَصْلِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا ذَاقُوهُ مِنَ الْعَذَابِ لَيْسَ إِلَّا بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ، فَقَالَ: وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ: إِلَّا جَزَاءَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، أَوْ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ الْمُخْلَصِينَ بِفَتْحِ اللَّامِ، أَيِ: الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، أَيِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا لِلَّهِ الْعِبَادَةَ وَالتَّوْحِيدَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ إِمَّا مُتَّصِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ تَعْمِيمِ الْخِطَابِ فِي تُجْزَوْنَ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، أَوْ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لَا يَذُوقُونَ الْعَذَابَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمُخْلَصِينَ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ:
لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الْمُخْلَصِينَ رِزْقٌ يَرْزُقُهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ مَعْلُومٌ فِي حُسْنِهِ وَطِيبِهِ، وَعَدَمِ انْقِطَاعِهِ.
قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْجَنَّةَ، وَقِيلَ: مَعْلُومُ الْوَقْتِ، وَهُوَ أَنْ يُعْطُوا مِنْهُ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا «١» وَقِيلَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ فَواكِهُ فَإِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ رِزْقٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ فَوَاكِهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَالْفَوَاكِهُ جَمْعُ الْفَاكِهَةِ وَهِيَ الثِّمَارُ كُلُّهَا رَطِبُهَا وَيَابِسُهَا، وَخَصَّصَ الْفَوَاكِهَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ أَرْزَاقَ أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّهَا فَوَاكِهُ كَذَا قِيلَ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَخْصِيصَهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَطْيَبُ مَا يَأْكُلُونَهُ وَأَلَذُّ مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْفَوَاكِهَ مِنْ أَتْبَاعِ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ، فَذِكْرُهَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهَا، وَجُمْلَةُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَلَهُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِكْرَامٌ عَظِيمٌ بِرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ عِنْدَهُ، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ وَلِقَائِهِ فِي الْجَنَّةِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ مُكْرَمُونَ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو مِقْسَمٍ بِتَشْدِيدِهَا وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ يَجُوزُ أَنْ يتعلق بمكرمون وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا، وَقَوْلُهُ:
عَلى سُرُرٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَالِثًا، وَانْتِصَابُ مُتَقابِلِينَ عَلَى الحالية من الضمير
(١) . مريم: ٦٢.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute