للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ عَلَى طَرِيقَةِ الِابْتِهَاجِ وَالسُّرُورِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وَأَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ لَا يَمُوتُونَ أَبَدًا، وَقَوْلُهُ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ هُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِهِ، أَيْ: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ كَمَا يُعَذَّبُ الْكُفَّارُ. ثُمَّ قَالَ مُشِيرًا إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيْ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ، وَالنَّعِيمَ الْمُقِيمَ، وَالْخُلُودَ الدَّائِمَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُقَادَرُ قَدَرُهُ وَلَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِوَصْفِهِ، وَقَوْلُهُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِهِ أَيْ: لِمِثْلِ هَذَا الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ الْعَظِيمِ فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ، فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ التِّجَارَةُ الرَّابِحَةُ، لَا الْعَمَلُ لِلدُّنْيَا الزَّائِلَةِ فَإِنَّهَا صَفْقَةٌ خَاسِرَةٌ، نَعِيمُهَا مُنْقَطِعٌ، وَخَيْرُهَا زَائِلٌ، وَصَاحِبُهَا عَنْ قَرِيبٍ مِنْهَا رَاحِلٌ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمَيِّتِينَ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «بِمَايِتِينَ» وَانْتِصَابُ إِلَّا مَوْتَتَنَا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا. أَيْ: لَكِنَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: خير، ونزلا: تَمْيِيزٌ، وَالنُّزُلُ فِي اللُّغَةِ الرِّزْقُ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَنْزِلُوا مَعَهُ وَيُقِيمُوا فِيهِ، وَالْخَيْرِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اخْتَارَهُ الْكُفَّارُ عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ:

الْمَعْنَى أَذَلِكَ خَيْرٌ فِي بَابِ الْإِنْزَالِ الَّتِي يَبْقُونَ بِهَا نُزُلًا أَمْ نُزُلُ أَهْلِ النَّارِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وَهُوَ مَا يُكْرَهُ تَنَاوُلُهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهُوَ شَيْءٌ مُرٌّ كَرِيهٌ يُكْرَهُ أَهْلُ النَّارِ عَلَى تَنَاوُلِهِ فَهُمْ يَتَزَقَّمُونَهُ، وَهِيَ عَلَى هَذَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التزقيم وَهُوَ الْبَلْعُ عَلَى جُهْدٍ لِكَرَاهَتِهَا وَنَتَنِهَا. وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا الَّتِي يَعْرِفُهَا الْعَرَبُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا فَقَالَ قُطْرُبٌ: إِنَّهَا شَجَرَةٌ مُرَّةٌ تَكُونُ بِتِهَامَةَ مِنْ أَخْبَثِ الشَّجَرِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ هُوَ كُلُّ نَبَاتٍ قَاتِلٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فِي شَجَرِ الدُّنْيَا. قَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ افْتُتِنَ بِهَا الظَّلَمَةُ فَقَالُوا: كَيْفَ تَكُونُ فِي النَّارِ شَجَرَةٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: حِينَ افْتُتِنُوا بِهَا وَكَذَّبُوا بِوُجُودِهَا. وَقِيلَ: مَعْنَى جَعْلِهَا فتنة لهم: أنها محنة لهم لكونهم يُعَذَّبُونَ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ هُنَا: الْكُفَّارُ أَوْ أَهْلُ الْمَعَاصِي الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَوْصَافَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ رَدًّا عَلَى مُنْكِرِيهَا فَقَالَ: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أَيْ: فِي قَعْرِهَا، قَالَ الْحَسَنُ:

أَصْلُهَا فِي قَعْرِ جهنم، وأغصانها ترفع إلى دركاتها، ثم قال: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ أَيْ: ثَمَرُهَا وَمَا تَحْمِلُهُ كَأَنَّهُ فِي تناهي قبحه وشناعة منظره رؤوس الشَّيَاطِينِ، فَشَبَّهَ الْمَحْسُوسَ بِالْمُتَخَيَّلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْئِيٍّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ غَايَةٌ فِي الْقُبْحِ كَمَا تَقُولُ فِي تَشْبِيهِ مَنْ يَسْتَقْبِحُونَهُ: كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ، وَفِي تَشْبِيهِ مَنْ يَسْتَحْسِنُونَهُ:

كَأَنَّهُ مَلَكٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ «١» وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرِفِيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ

وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: الشياطين حيات لها رؤوس وَأَعْرَافٌ، وَهِيَ مِنْ أَقْبَحِ الْحَيَّاتِ وَأَخْبَثِهَا، وَأَخَفِّهَا جسما، وقيل إن رؤوس الشَّيَاطِينِ اسْمٌ لِنَبْتٍ قَبِيحٍ مَعْرُوفٍ بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ الْأَسْتنُ، وَيُقَالُ لَهُ الشَّيْطَانُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: هُوَ شَجَرٌ خَشِنٌ مُنْتِنٌ مُرٌّ مُنْكَرُ الصُّورَةِ يُسَمَّى ثمره رؤوس


(١) . يوسف: ٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>