للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابن جُبَيْرٍ: أَشَارَ لَهُمْ إِلَى مَرَضٍ يُسْقِمُ وَيُعْدِي وَهُوَ الطَّاعُونُ وَكَانُوا يَهْرُبُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أَيْ: تَرَكُوهُ وَذَهَبُوا مَخَافَةَ الْعَدْوَى فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ يُقَالُ رَاغَ رَوْغًا وَرَوَغَانًا: إِذَا مَالَ، وَمِنْهُ طَرِيقٌ رَائِغٌ: أَيْ مَائِلٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَيُرِيكَ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ حَلَاوَةً ... وَيَرُوغُ عَنْكَ كَمَا يَرُوغُ الثَّعْلَبُ

وَقَالَ السُّدِّيُّ: ذَهَبَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: جَاءَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ: وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ أَيْ: فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي رَاغَ إِلَيْهَا اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً: أَلَا تَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَهُ لَهَا، وَخَاطَبَهَا كَمَا يُخَاطَبُ مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَإِنَّهُ خَاطَبَهُمْ خِطَابَ مَنْ يَعْقِلُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّهَكُّمِ بِهِمْ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا تَنْطِقُ.

قِيلَ: إِنَّهُمْ تَرَكُوا عِنْدَ أَصْنَامِهِمْ طَعَامَهُمْ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا، وَلِيَأْكُلُوهُ إِذَا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ. وَقِيلَ تَرَكُوهُ لِلسَّدَنَةِ، وَقِيلَ إِنَّ إبراهيم هو الذي قرب إليها الطَّعَامَ مُسْتَهْزِئًا بِهَا فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ أَيْ: فَمَالَ عَلَيْهِمْ يَضْرِبُهُمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ هو مصدر لراغ، لأنه بمعنى ضرب. قال الواحد:

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي بِيَدِهِ الْيُمْنَى يَضْرِبُهُمْ بِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ أَقْوَى الْيَدَيْنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَثَعْلَبٌ ضَرْبًا بِالْقُوَّةِ، وَالْيَمِينُ الْقُوَّةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْمُرَادُ بِالْيَمِينِ: الْيَمِينُ الَّتِي حَلَفَهَا حِينَ قَالَ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْيَمِينِ هُنَا الْعَدْلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أَيْ: بِالْعَدْلِ، وَالْيَمِينُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْعَدْلِ، كَمَا أَنَّ الشِّمَالَ: كِنَايَةٌ عَنِ الْجَوْرِ، وَأَوَّلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَوْلَاهَا فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ أَيْ: أَقْبَلَ إِلَيْهِ عَبَدَةُ تِلْكَ الْأَصْنَامِ يُسْرِعُونَ لَمَّا عَلِمُوا بما صنعه بها، ويزفون فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ أَقْبَلُوا قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَزِفُّونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ زَفَّ الظَّلِيمُ «١» يَزُفُّ إِذَا عَدَا بِسُرْعَةٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَزَفَّ يُزِفُّ: أَيْ دَخَلَ فِي الزَّفِيفِ، أَوْ يَحْمِلُونَ غَيْرَهُمْ عَلَى الزَّفِيفِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَزْفَفْتُ الْإِبِلَ: أَيْ حَمَلْتُهَا عَلَى أَنْ تَزِفَّ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ زَفَّ الْقَوْمُ وَأَزَفُّوا، وَزُفَّتِ الْعَرُوسُ وَأَزْفَفْتُهَا، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْخَلِيلِ. قَالَ النَّحَّاسُ: زَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هَذِهِ اللُّغَةَ: يَعْنِي يُزِفُّونَ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَقَدْ عَرَفَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ العلماء منهم الفراء، وشبهها بقولهم أطردت الرجل:

أَيْ صَيَّرْتُهُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الزَّفِيفُ الْإِسْرَاعُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الزَّفِيفُ أَوَّلُ عَدْوِ النَّعَامِ. وقال قتادة والسدّي: معنى يَزِفُّونَ يَمْشُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَسْعَوْنَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: يُرْعِدُونَ غَضَبًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَخْتَالُونَ، أَيْ: يَمْشُونَ مَشْيَ الْخُيَلَاءِ، وَقِيلَ: يَتَسَلَّلُونَ تَسَلُّلًا بين المشي والعدو، والأولى تفسير يزفون بيسرعون، وَقُرِئَ يَزِفُّونَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقُرِئَ يَزِفُّونَ كيرمون. وحكى الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميقع أنهم قرءوا «يزفّون» بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ رَكْضٌ بَيْنَ الْمَشْيِ وَالْعَدْوِ قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ لَمَّا أَنْكَرُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ مَا فَعَلَهُ بِالْأَصْنَامِ، ذَكَرَ لَهُمُ الدَّلِيلَ الدال على فساد عبادتها، فقال


(١) . الظليم: ذكر النعام.

<<  <  ج: ص:  >  >>