للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ إِلَّا الْوَلَدَ، وَمَعْنَى حَلِيمٍ: أَنْ يَكُونَ حَلِيمًا عِنْدَ كِبَرِهِ، فَكَأَنَّهُ بُشِّرَ بِبَقَاءِ ذَلِكَ الْغُلَامِ حَتَّى يَكْبَرَ وَيَصِيرَ حَلِيمًا، لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يُوصَفُ بِالْحِلْمِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْبِشَارَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُبَشَّرٌ بِابْنٍ ذَكَرٍ، وَأَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى يَنْتَهِيَ فِي السِّنِّ وَيُوَصَفَ بِالْحِلْمِ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ كَمَا تُشْعِرُ بِهِ هَذِهِ الْفَاءُ الْفَصِيحَةُ وَالتَّقْدِيرُ: فَوَهَبْنَا لَهُ الْغُلَامَ فَنَشَأَ حَتَّى صَارَ إِلَى السِّنِّ الَّتِي يُسْعَى فِيهَا مَعَ أَبِيهِ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أَيْ: شَبَّ وَأَدْرَكَ سَعْيُهُ سَعْيَ إِبْرَاهِيمَ.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا مَشَى مَعَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ كَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ سَعْيُ الْعَقْلِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ السَّعْيُ فِي العبادة، وقيل: هو الاحتلام قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ قَالَ إبراهيم لابنه لما بلغ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ هَذِهِ الرُّؤْيَا. قَالَ مُقَاتِلٌ:

رَأَى إِبْرَاهِيمُ ذَلِكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَتَابِعَاتٍ. قَالَ قَتَادَةُ: رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ إِذَا رَأَوْا شَيْئًا فَعَلُوهُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الذَّبِيحِ؟ هَلْ هُوَ إِسْحَاقُ أَوْ إِسْمَاعِيلُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَقَالَ أَكْثَرُهُمُ: الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمَطَّلِبِ وابنه عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. قَالَ: وَمِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ: عَلْقَمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَقَتَادَةُ، ومسروق، وعكرمة، والقاسم بن أبي برزة، وعطاء، ومقاتل، وعبد الرحمن بن سابط، والمهري، وَالسُّدِّيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ كُلُّهُمْ قَالُوا الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ، وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ: النَّحَّاسُ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَيُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، وَعَلْقَمَةُ، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنِ الذَّبِيحِ فَقَالَ: يَا أَصْمَعِيُّ أَيْنَ عَزَبَ عَنْكَ عَقْلُكَ، وَمَتَى كَانَ إِسْحَاقُ بِمَكَّةَ؟ وَإِنَّمَا كَانَ إِسْمَاعِيلُ بِمَكَّةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ حَتَّى يُقَالَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَمَا أَظُنُّ ذَلِكَ تُلُقِّيَ إِلَّا عَنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأُخِذَ مُسَلَّمًا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، وَكِتَابُ اللَّهِ شَاهِدٌ وَمُرْشِدٌ إِلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْبِشَارَةَ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ الذَّبِيحُ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.

وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ إِسْحَاقُ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَهُمْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ حِينَ فَارَقَ قَوْمَهُ، فَهَاجَرَ إِلَى الشَّامِ مَعَ امْرَأَتِهِ سَارَّةَ وَابْنِ أَخِيهِ لُوطٍ فَقَالَ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ أَنَّهُ دَعَا فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ «١» وَلِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فَذَكَرَ أَنَّهُ فِي الْغُلَامِ الْحَلِيمِ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ إبراهيم، وإنما بشر بإسحاق،


(١) . مريم: ٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>