دُونَهُمْ بَيَّنَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَرَكُوا تَصْدِيقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ، فَقَالَ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أَيْ: مِنَ الْقُرْآنِ، أَوِ الْوَحْيِ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ الْمُوجِبِ لِتَصْدِيقِهِ، وَإِهْمَالِهِمْ لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أَيْ: بَلِ السَّبَبُ أَنَّهُمْ لَمْ يَذُوقُوا عَذَابِي فَاغْتَرُّوا بِطُولِ الْمُهْلَةِ، وَلَوْ ذَاقُوا عَذَابِي عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ لَصَدَّقُوا مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَشُكُّوا فِيهِ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَيْ: مَفَاتِيحُ نِعَمِ رَبِّكَ وَهِيَ النُّبُوَّةُ وَمَا هُوَ دُونَهَا مِنَ النِّعَمِ حَتَّى يُعْطُوهَا من شاؤوا، فَمَا لَهُمْ وَلِإِنْكَارِ مَا تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ وَاخْتَارَهُ لَهُ وَاصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ.
وَالْمَعْنَى: بَلْ أَعِنْدَهُمْ، لِأَنَّ أَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ. وَالْعَزِيزُ: الْغَالِبُ الْقَاهِرُ. وَالْوَهَّابُ: الْمُعْطِي بِغَيْرِ حِسَابٍ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أَيْ: بَلْ أَلَهُمْ مُلْكُ هذه الأشياء حتى يعطوا من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا، وَيَعْتَرِضُوا عَلَى إِعْطَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ لِمَنْ شَاءَ، وَقَوْلُهُ: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْعَدُوا فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوصِلُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ أو إلى الْعَرْشِ حَتَّى يَحْكُمُوا بِمَا يُرِيدُونَ مِنْ عَطَاءٍ وَمَنْعٍ، وَيُدَبِّرُوا أَمْرَ الْعَالَمِ بِمَا يَشْتَهُونَ، أَوْ فَلْيَصْعَدُوا، وَلِيَمْنَعُوا الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُزُولِهِمْ بِالْوَحْيِ عَلَى محمّد صلّى الله عليه وسلّم. والأسباب: أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها. قال مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ «١»
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْأَسْبَابُ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ وَلَكِنْ لَا تُرَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي الْأَسْبابِ فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ. وَقِيلَ: فَلْيَعْمَلُوا فِي أَسْبَابِ الْقُوَّةِ إِنْ ظَنُّوا أَنَّهَا مَانِعَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
وَقِيلَ الْأَسْبَابُ: الْحِبَالُ، يَعْنِي: إِنْ وَجَدُوا حِبَالًا يَصْعَدُونَ فِيهَا إِلَى السَّمَاءِ فَعَلُوا، وَالْأَسْبَابُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ كُلُّ شَيْءٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ كَائِنًا مَا كَانَ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَتَعْجِيزٌ لَهُمْ جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنصر عليهم والظفر بهم، وجند: مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمْ جُنْدٌ، يَعْنِي الْكُفَّارَ مَهْزُومٌ مَكْسُورٌ عَمَّا قَرِيبٍ، فَلَا تُبَالِ بِهِمْ وَلَا تَظُنَّ أَنَّهُمْ يَصِلُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا يُضْمِرُونَهُ بِكَ مِنَ الْكَيْدِ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا هُنالِكَ هي صفة لجند لِإِفَادَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّحْقِيرِ، أَيْ: جُنْدٌ أَيُّ جُنْدٍ. وَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ، يُقَالُ: هَزَمْتَ الْجَيْشَ كَسَرْتَهُ، وَتَهَزَّمَتِ الْقَرْيَةُ: إِذَا تَكَسَّرَتْ، وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ وَهُمْ جُنْدٌ مِنَ الْأَحْزَابِ مَهْزُومُونَ، فَلَا تَحْزَنْ لِعِزَّتِهِمْ وَشِقَاقِهِمْ، فَإِنِّي أَسْلُبُ عِزَّهُمْ وَأَهْزِمُ جَمْعَهُمْ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ وَلِلَّهِ الحمد في يوم بَدْرٍ وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ مُوَاطِنِ اللَّهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: سُئِلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عباس عن ص فقال:
(١) . وصدره: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute