للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِذَنْبِهِ وَخَرَّ راكِعاً أَيْ: سَاجِدًا، وَعَبَّرَ بِالرُّكُوعِ عَنِ السُّجُودِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّكُوعِ هُنَا السُّجُودُ، فَإِنَّ السُّجُودَ هُوَ الْمَيْلُ، وَالرُّكُوعُ هُوَ الِانْحِنَاءُ وَأَحَدُهُمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهَيْئَةٍ. ثُمَّ جَاءَ فِي هَذَا عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى لِلسُّجُودِ رَاكِعًا:

أَيْ: مُصَلِّيًا. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ رُكُوعُهُمْ سُجُودًا، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ سُجُودُهُمْ رُكُوعًا وَأَنابَ أَيْ: رَجَعَ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبِهِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَنْبِ دَاوُدَ الَّذِي اسْتَغْفَرَ لَهُ وَتَابَ عَنْهُ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى امْرَأَةِ الرَّجُلِ الَّتِي أَرَادَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ، كَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَمْ يَتَعَمَّدْ دَاوُدُ النَّظَرَ إِلَى الْمَرْأَةِ لَكِنَّهُ عَاوَدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا، وَصَارَتِ الْأُولَى لَهُ وَالثَّانِيَةُ عَلَيْهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ أَرْسَلَ زَوْجَهَا فِي جُمْلَةِ الْغُزَاةِ. الثَّالِثُ أَنَّهُ نَوَى إِنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. الرَّابِعُ أَنَّ أُورِيَا كَانَ خَطَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ فَلَمَّا غَابَ خَطَبَهَا دَاوُدُ فَزُوِّجَتْ مِنْهُ لِجَلَالَتِهِ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ أُورِيَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَتْرُكْهَا لِخَاطِبِهَا. الْخَامِسُ أَنَّهُ لَمْ يَجْزَعْ عَلَى قَتْلِ أُورِيَا كَمَا كَانَ يَجْزَعُ عَلَى مَنْ هَلَكَ مِنَ الْجُنْدِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ ذُنُوبَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ صَغُرَتْ فَهِيَ عَظِيمَةٌ. السَّادِسُ أَنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ كَمَا قَدَّمْنَا «١» .

وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنَ الْخُصُومَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ الْمَلَكَيْنِ تَعْرِيضًا لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْ زَوْجِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ أَنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنْهَا وَيَضُمَّهَا إِلَى نِسَائِهِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا الْعِصْمَةَ الْكَائِنَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ، فقد نبهه اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَرَّضَ لَهُ بِإِرْسَالِ مَلَائِكَتِهِ إِلَيْهِ لِيَتَخَاصَمُوا فِي مِثْلِ قِصَّتِهِ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لِذَنْبِهِ وَيَتُوبَ مِنْهُ فَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ. وَقَدْ قَالَ سبحانه وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «٢» وهو أبو والبشر وَأَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَوَقَعَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَبِلَ اسْتِغْفَارَهُ وَتَوْبَتَهُ قَالَ: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أَيْ: ذَلِكَ الذَّنْبَ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ. قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ دَاوُدَ بَقِيَ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى نَبَتَ الرَّعْيُ حَوْلَ وَجْهِهِ وَغَمَرَ رَأْسَهُ.

قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ تَامٌّ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ الزُّلْفَى: الْقُرْبَةُ وَالْكَرَامَةُ بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ لِذَنْبِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الزُّلْفَى الدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِحُسْنِ الْمَآبِ: حُسْنُ الْمَرْجِعِ وَهُوَ الْجَنَّةِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا لَها مِنْ فَواقٍ قَالَ: مِنْ رَجْعَةٍ.

وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قال: سألوا الله أن يجعل لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْهُ عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَالَ: نَصِيبَنَا مِنَ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: ذَا الْأَيْدِ قَالَ: الْقُوَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْأَوَّابُ الْمُسَبِّحُ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الْأَوَّابِ فَقَالَ: سَأَلْتُ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يَذْكُرُ ذُنُوبَهُ في الخلاء فيستغفر الله. وأخرج


(١) . هذا هو القول السديد والله أعلم لأن ما عداه مما ذكر لا يصح بحق أنبياء الله ورسله وهو من الإسرائيليات.
(٢) . طه: ١٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>