وَالْغَسَّاقُ: مَا سَالَ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، مِنْ قَوْلِهِمْ غَسَقَتْ عَيْنُهُ إِذَا انْصَبَّتْ، وَالْغَسَقَانُ الِانْصِبَابُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْأَمْرَ هَذَا، وَارْتِفَاعُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرَانِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيْ:
لِيَذُوقُوا هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَمِيمٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مُقَدَّرٌ قَبْلَهُ، أَيْ: مِنْهُ حَمِيمٌ، وَمِنْهُ غَسَّاقٌ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
حَتَّى مَا إِذَا أَضَاءَ الْبَرْقُ فِي غَلَسٍ ... وَغُودِرَ الْبَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَخْضُودُ
أَيْ: مِنْهُ مَلْوِيٌّ، وَمِنْهُ مَخْضُودٌ، وَقِيلَ: الْغَسَّاقُ مَا قَتَلَ بِبَرْدِهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّيْلِ: غَاسِقٌ، لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنَ النَّهَارِ، وَقِيلَ: هُوَ الزَّمْهَرِيرُ، وَقِيلَ: الْغَسَّاقُ الْمُنْتِنُ، وَقِيلَ: الْغَسَّاقُ عَيْنٌ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ مِنْهُ كُلُّ ذَوْبِ حَيَّةٍ وَعَقْرَبٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا يُسِيلُ مِنْ فُرُوجِ النِّسَاءِ الزَّوَانِي، وَمِنْ نَتَنِ لُحُومِ الْكَفَرَةِ، وَجُلُودِهِمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُوَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْغَسَّاقُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ دُمُوعِ أَهْلِ النَّارِ يَسْقُونَهُ مَعَ الْحَمِيمِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ الثَّلْجُ الْبَارِدُ الَّذِي قَدِ انْتَهَى بَرْدُهُ، وَتَفْسِيرُ الْغَسَّاقِ بِالْبَارِدِ أَنْسَبُ بِمَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا مَا تَذَكَّرْتُ الْحَيَاةَ وَطِيبَهَا ... إِلَيَّ جَرَى دَمْعٌ مِنَ اللَّيْلِ غَاسِقُ
أَيْ: بَارِدٌ، وَأَنْسَبُ أَيْضًا بِمُقَابَلَةِ الْحَمِيمِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِتَخْفِيفِ السِّينِ مِنْ غَسَّاقٌ وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، فَمَنْ خَفَّفَ فَهُوَ اسْمٌ مِثْلُ عَذَابٍ وَجَوَابٍ وَصَوَابٍ، وَمَنْ شَدَّدَ قَالَ:
هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ نَحْوَ ضَرَّابٍ وَقَتَّالٍ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَآخَرُ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو «وَأُخَرُ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ، وَأَنْكَرَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ لِقَوْلِهِ أَزْوَاجٌ، وَأَنْكَرَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو وَقَالَ: لَوْ كَانَتْ كَمَا قَرَأَ لِقَالَ مِنْ شَكْلِهَا، وَارْتِفَاعُ آخَرُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَزْوَاجٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شكله خبرا مقدّما، وأزواج مُبْتَدَأً مُؤَخَّرًا، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ آخَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون خبرا آخر مقدرا، أي: وآخر لهم، ومِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَعَذَابٌ آخَرُ أَوْ مَذُوقٌ آخَرُ، أو نوع آخر من شكل العذاب، أو الْمَذُوقِ، أَوِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَالشَّكْلُ الْمَثَلُ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَذُوقَاتٌ أُخَرُ، أَوْ أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِنْ شَكْلِ ذَلِكَ الْمَذُوقِ أَوِ النَّوْعِ الْمُتَقَدِّمِ. وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ فِي شَكْلِهِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: مِنْ شَكْلِ الْمَذْكُورِ، وَمَعْنَى أَزْواجٌ: أَجْنَاسٌ، وَأَنْوَاعٌ، وَأَشْبَاهٌ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ لِأَهْلِ النَّارِ حَمِيمًا، وَغَسَّاقًا، وَأَنْوَاعًا مِنَ الْعَذَابِ مِنْ مِثْلِ الْحَمِيمِ، وَالْغَسَّاقِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ الزَّمْهَرِيرُ، وَلَا يُتِمُّ هَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الزَّمْهَرِيرَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَأَجْنَاسٌ مُتَفَاوِتَةٌ لِيُطَابِقَ مَعْنَى أَزْوَاجٍ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ زَمْهَرِيرًا هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ الْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ، وَالِاقْتِحَامُ: الدُّخُولُ، وَهَذَا حِكَايَةٌ لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ خَزَنَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute