للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعِزَّةُ وَالْحَمِيَّةُ عَنْ قَبُولِ الْوَعْظِ لِلْإِثْمِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ، وَهُوَ النِّفَاقُ وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى مع، أي: أخذته العزّة مع الْإِثْمِ. وَقَوْلُهُ: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أَيْ: كَافِيَةٌ مُعَاقَبَةً وَجَزَاءً، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: كَفَّاكَ مَا حَلَّ بِكَ، وَأَنْتَ تَسْتَعْظِمُ عَلَيْهِ مَا حَلَّ بِهِ. وَالْمِهَادُ: جَمْعُ الْمَهْدِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُهَيَّأُ لِلنَّوْمِ، وَمِنْهُ مَهْدُ الصَّبِيِّ وَسُمِّيَتْ جَهَنَّمُ: مِهَادًا، لِأَنَّهَا مُسْتَقَرُّ الْكُفَّارِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهَا بَدَلٌ لَهُمْ من المهاد كقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ «١» وَيَشْرِي بِمَعْنَى: يَبِيعُ، أَيْ: يَبِيعُ نَفْسَهُ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ، كَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، ومثله قوله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ «٢» وَأَصْلُهُ: الِاسْتِبْدَالُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ «٣» ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ

وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:

يعطى بها ثمنا فيمنعها ... ويقول صاحبها أَلَا تَشْرِي «٤»

وَالْمَرْضَاةُ: الرِّضَا، تَقُولُ: رَضِيَ يَرْضَى، رِضًا وَمَرْضَاةً. وَوَجْهُ ذِكْرِ الرَّأْفَةِ هُنَا: أَنَّهُ أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم ويثيبهم، فَكَانَ ذَلِكَ رَأْفَةً بِهِمْ وَلُطْفًا لَهُمْ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أُصِيبَتِ السَّرِيَّةُ الَّتِي فِيهَا عَاصِمٌ وَمَرْثَدٌ قَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: يَا وَيْحَ هَؤُلَاءِ الْمَقْتُولِينَ الَّذِينَ هَلَكُوا هَكَذَا، لَا هُمْ قَعَدُوا فِي أَهْلِهِمْ، وَلَا هُمْ أَدَّوْا رِسَالَةَ صَاحِبِهِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ:

مَا يُظْهِرُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِلِسَانِهِ، وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ، وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أَيْ: ذُو جِدَالٍ إِذَا كَلَّمَكَ وَرَاجَعَكَ وَإِذا تَوَلَّى: خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها، وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ أَيْ: لَا يُحِبُّ عَمَلَهُ وَلَا يَرْضَى بِهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ الَّذِينَ يَشْرُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ، حَتَّى هَلَكُوا عَلَى ذَلِكَ: يَعْنِي هَذِهِ السَّرِيَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم عن السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ الْآيَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ، أَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَقَالَ: جِئْتُ أُرِيدُ الْإِسْلَامَ، وَيَعْلَمُ اللَّهُ أَنِّي لَصَادِقٌ، فَأَعْجَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:

وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عند النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحُمُرٍ، فأحرق


(١) . هذا عجز بيت لمعدي كرب، وصدره: وخيل قد دلفت لها بخيل.
(٢) . يوسف: ٢٠.
(٣) . التوبة: ١١١.
(٤) . في القرطبي ٣/ ٢١: ألا فأشر.

<<  <  ج: ص:  >  >>