للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ فَيُجِيبُ تَعَالَى نَفْسَهُ، فَيَقُولُ: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ السَّائِلُ تَعَالَى، وَهُوَ الْمُجِيبُ حِينَ لَا أَحَدَ يُجِيبُهُ فَيُجِيبُ نَفْسَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي بِذَلِكَ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْمَحْشَرِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وَقِيلَ: إِنَّهُ يُجِيبُ الْمُنَادِيَ بِهَذَا الْجَوَابِ أَهْلُ الْجَنَّةِ دُونَ أَهْلِ النَّارِ، وَقِيلَ:

هُوَ حِكَايَةٌ لِمَا يَنْطِقُ بِهِ لِسَانُ الْحَالِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِانْقِطَاعِ دَعَاوَى الْمُبْطِلِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «١» وَقَوْلُهُ:

الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ مِنْ تَمَامِ الْجَوَابِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُجِيبَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُجِيبَ هُمُ الْعِبَادُ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ فَهُوَ مستأنف لبيان ما يقوله اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ جَوَابِهِمْ، أَيِ: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بِنَقْصٍ مِنْ ثَوَابِهِ أَوْ بِزِيَادَةٍ فِي عِقَابِهِ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي: سريع حساب لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفَكُّرٍ فِي ذَلِكَ كَمَا يَحْتَاجُهُ غَيْرُهُ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ بِإِنْذَارِ عِبَادِهِ فَقَالَ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِقُرْبِهَا، يُقَالُ أَزِفَ فُلَانٌ: أَيْ قَرُبَ، يَأْزَفُ أَزَفًا، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:

أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمَّا تَزَلْ بِرِكَابِنَا وَكَأَنَّ قد

ومنه قوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ «٢» أَيْ: قَرُبَتِ السَّاعَةُ، وَقِيلَ: إِنَّ يَوْمَ الْآزِفَةِ هُوَ يَوْمُ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقِيلَ: لَهَا آزِفَةٌ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ، وَإِنِ اسْتَبْعَدَ النَّاسُ أَمْرَهَا، وَمَا هُوَ كَائِنٌ فَهُوَ قَرِيبٌ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ وَذَلِكَ أَنَّهَا تَزُولُ عَنْ مَوَاضِعِهَا مِنَ الْخَوْفِ حَتَّى تَصِيرَ إِلَى الْحَنْجَرَةِ كَقَوْلِهِ: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ «٣» كاظِمِينَ مَغْمُومِينَ، مَكْرُوبِينَ، مُمْتَلِئِينَ غَمًّا. قَالَ الزَّجَّاجُ:

الْمَعْنَى إِذْ قُلُوبُ النَّاسِ لَدَى الْحَنَاجِرِ فِي حَالِ كَظْمِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ: وَقَعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي الْحَنَاجِرِ مِنَ الْمَخَافَةِ، فَهِيَ لَا تَخْرُجُ وَلَا تَعُودُ فِي أَمْكِنَتِهَا. وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ نِهَايَةِ الْجَزَعِ، وَإِنَّمَا قَالَ كَاظِمِينَ بِاعْتِبَارِ أَهْلِ الْقُلُوبِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِذْ قُلُوبُ النَّاسِ لَدَى حَنَاجِرِهِمْ، فَيَكُونُ حَالًا مِنْهُمْ. وَقِيلَ: حَالًا مِنَ الْقُلُوبِ، وَجُمِعَ الْحَالُ مِنْهَا جَمْعَ الْعُقَلَاءِ لِأَنَّهُ أُسْنِدَ إِلَيْهَا مَا يُسْنَدُ إِلَى الْعُقَلَاءِ، فَجُمِعَتْ جَمْعَهُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْكَافِرِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ فَقَالَ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أَيْ: قَرِيبٍ يَنْفَعُهُمْ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فِي شَفَاعَتِهِ لَهُمْ، وَمَحَلُّ يُطَاعُ الْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِشَفِيعٍ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ شُمُولَ عِلْمِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ فَقَالَ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَهِيَ مُسَارَقَةُ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ آخَرُ لِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ قَالَ الْمُؤَرِّجُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: يَعْلَمُ الْأَعْيُنَ الْخَائِنَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ:

الْهَمْزُ بِالْعَيْنِ فِيمَا لَا يُحِبُّ اللَّهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ مَا رَأَيْتُ، وَقَدْ رَأَى، وَرَأَيْتُ وَمَا رَأَى.

وَقَالَ سُفْيَانُ: هِيَ النَّظْرَةُ بَعْدَ النَّظْرَةِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ مِنَ الضَّمَائِرِ وَتُسِرُّهُ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ فَيُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ خَيْرٍ وشرّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ


(١) . الانفطار: ١٧- ١٩.
(٢) . النجم: ٥٧.
(٣) . الأحزاب: ١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>