للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عامِلُونَ أَيِ: اعْمَلْ عَلَى دِينِكَ إِنَّنَا عَامِلُونَ عَلَى دِينِنَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: اعْمَلْ فِي هَلَاكِنَا فَإِنَّا عَامِلُونَ فِي هَلَاكِكَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اعْمَلْ لإلهك الذي أرسلك فإنا نعمل لآهلتنا الَّتِي نَعْبُدُهَا، وَقِيلَ: اعْمَلْ لِآخِرَتِكَ فَإِنَّا عَامِلُونَ لِدُنْيَانَا. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا فَقَالَ: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أَيْ: إِنَّمَا أَنَا كَوَاحِدٍ مِنْكُمْ لَوْلَا الْوَحْيُ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ جِنْسٍ مُغَايِرٍ لَكُمْ حَتَّى تَكُونَ قُلُوبُكُمْ فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَفِي آذَانِكُمْ وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِي وَبَيْنِكُمْ حِجَابٌ، وَلَمْ أَدْعُكُمْ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ، وَإِنَّمَا أَدْعُوكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُوحى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالنَّخَعِيُّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أي: يوحي الله إليّ. قيل وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ قَسْرًا فَإِنِّي بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَا امْتِيَازَ لِي عَنْكُمْ إِلَّا أَنِّي أُوحِيَ إِلَيَّ التَّوْحِيدُ وَالْأَمْرُ بِهِ، فَعَلَيَّ الْبَلَاغُ وَحْدَهُ فَإِنْ قَبِلْتُمْ رَشَدْتُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ هَلَكْتُمْ.

وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنِّي لَسْتُ بِمَلَكٍ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ دُونَكُمْ، فَصِرْتُ بِالْوَحْيِ نَبِيًّا، وَوَجَبَ عَلَيْكُمُ اتِّبَاعِي. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَّمَ رَسُولَهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَيْفَ يَتَوَاضَعُ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ عَدَّاهُ بِإِلَى لتضمنه معنى توجهوا، والمعنى: وجهوا استقامتكم وَلَا تَمِيلُوا عَنْ سَبِيلِهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ لِمَا فَرَطَ مِنْكُمْ مِنَ الذُّنُوبِ. ثُمَّ هَدَّدَ الْمُشْرِكِينَ وَتَوَعَّدَهُمْ فَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ:

الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أَيْ: يَمْنَعُونَهَا وَلَا يُخْرِجُونَهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: لَا يَتَصَدَّقُونَ وَلَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَةِ. وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ، لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّهَا زَكَاةُ الْأَنْفُسِ وَتَطْهِيرُهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْفِقُونَ النَّفَقَاتِ، وَيَسْقُونَ الْحَجِيجَ وَيُطْعِمُونَهُمْ فَحَرَّمُوا ذَلِكَ عَلَى مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى لَا يُؤْتُونَ دَاخِلٌ مَعَهُ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، أَيْ: مُنْكِرُونَ لِلْآخِرَةِ جَاحِدُونَ لَهَا، وَالْمَجِيءُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِقَصْدِ الْحَصْرِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ عَنْهُمْ، يُقَالُ مَنَّنْتُ الْحَبْلَ: إِذَا قَطَعْتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَصْبَغِ الأودي:

إنّي لعمرك ما بابي بذي غلق ... عَلَى الصَّدِيقِ وَلَا خَيْرِي بِمَمْنُونِ

وَقِيلَ الْمَمْنُونُ: الْمَنْقُوصُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ زُهَيْرٍ:

فَضْلَ الْجِيادِ عَلَى الْخَيْلِ الْبِطَاءِ فَلَا ... يُعْطِي بِذَلِكَ مَمْنُونًا وَلَا نَزِقَا

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَنُّ: الْقَطْعُ، وَيُقَالُ: النَّقْصُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وَقَالَ لَبِيدٌ:

غُبْسٌ كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا «١»

وَقَالَ مُجَاهِدٌ غَيْرَ مَمْنُونٍ: غَيْرَ مَحْسُوبٍ، وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا يُمَنُّ عَلَيْهِمْ بِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُمَنُّ بِالتَّفَضُّلِ، فَأَمَّا الْأَجْرُ فَحَقٌّ أَدَاؤُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْمَرْضَى، وَالزَّمْنَى، وَالْهَرْمَى إِذَا ضَعُفُوا عَنِ الطَّاعَةِ كُتِبَ لهم


(١) . وصدر البيت، كما في القرطبي واللسان:
لمعفّر قهد تنازع شلوه

<<  <  ج: ص:  >  >>