للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَتَكُونُ النَّارُ: عَطْفَ بَيَانٍ لِلْجَزَاءِ، أَوْ: بَدَلًا مِنْهُ، أَوْ: خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ: مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ. وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْوُجُوهِ الْأُولَى تَكُونُ جُمْلَةُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ مُسْتَأْنَفَةً مُقَرِّرَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَمَعْنَى دَارِ الْخُلْدِ: دَارِ الْإِقَامَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي لَا انْقِطَاعَ لَهَا جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أَيْ: يُجْزَوْنَ جَزَاءً بِسَبَبِ جَحْدِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْقُرْآنَ يَجْحَدُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الله، وعلى هذا يكون التعبير عن اللغوب الجحود لِكَوْنِهِ سَبَبًا لَهُ، إِقَامَةً لِلسَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَالُوا هَذَا وَهُمْ فِي النَّارِ، وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُرِيَهُمْ مَنْ أَضَلَّهُمْ مِنْ فَرِيقِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ كَانُوا يُسَوِّلُونَ لَهُمْ، وَيَحْمِلُونَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي، وَمِنَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُزَيِّنُونَ لَهُمُ الْكُفْرَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِبْلِيسُ وَقَابِيلُ لِأَنَّهُمَا سَنَّا الْمَعْصِيَةَ لِبَنِي آدَمَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَرِنَا بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالسُّوسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ عَامِرٍ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَبِهَا قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: إِذَا قُلْتَ أَرِنِي ثَوْبَكَ بِالْكَسْرِ فَمَعْنَاهُ بَصِّرْنِيهِ وَبِالسُّكُونِ أَعْطِنِيهِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا أي ندوسهما بِأَقْدَامِنَا لِنَشْتَفِيَ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: نَجْعَلُهُمْ أَسْفَلَ مِنَّا فِي النَّارِ لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ فِيهَا مَكَانًا أَوْ: لِيَكُونَا مِنَ الْأَذَلِّينَ الْمُهَانِينَ، وَقِيلَ: لِيَكُونُوا أَشَدَّ عَذَابًا مِنَّا. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ عِقَابَ الْكَافِرِينَ وَمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ أَيْ: وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا عَلَى التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ.

قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: مَعْنَى الِاسْتِقَامَةِ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: ثُمَّ اسْتَقَامُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: اسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، فَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ، وَاجْتَنَبُوا مَعْصِيَتَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: اسْتَقَامُوا عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى مَاتُوا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَمِلُوا عَلَى وِفَاقِ مَا قَالُوا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: أَعْرَضُوا عَمَّا سِوَى اللَّهِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: زَهِدُوا فِي الْفَانِيَةِ، وَرَغِبُوا فِي الْبَاقِيَةِ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْبُشْرَى الَّتِي يُرِيدُونَهَا مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ، أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ، أَوْ رَفْعِ حُزْنٍ.

قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لِلْبَعْثِ. وَقَالَ وَكِيعٌ:

الْبُشْرَى فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: عِنْدَ الْمَوْتِ، وفي القبر، وعند البعث أَلَّا أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ أو المفسرة أو الناصبة، ولا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ نَاهِيَةٌ، وَعَلَى الثَّالِثِ نَافِيَةٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَخَافُوا مِمَّا تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَمَالٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَخَافُوا الْمَوْتَ وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلِيفَتُكُمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا تَخَافُوا رَدَّ ثَوَابِكُمْ فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ، وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى ذُنُوبِكُمْ فَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكُمْ. وَالظَّاهِرُ عَدَمُ تَخْصِيصِ تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَعَدَمُ تَقْيِيدِ نَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ بِحَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ فِي الْجَمِيعِ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّكُمْ وَاصِلُونَ إِلَيْهَا مُسْتَقِرُّونَ بِهَا خَالِدُونَ فِي نَعِيمِهَا. ثُمَّ بَشَّرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَقَالَ: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ

أَيْ: نَحْنُ الْمُتَوَلُّونَ لِحِفْظِكُمْ، وَمَعُونَتِكُمْ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ وَلِيَّهُ فَازَ بِكُلِّ مَطْلَبٍ وَنَجَا مِنْ كُلِّ مَخَافَةٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>